عبير ضاهر تكتب..جورج ساند روائية الأرياف

 

 

الكاتبة الفرنسية أمانتين أورو لوسيل التي كتب فيها ألفريد دى موسيه

عندما أراكِ أحبّ العناية الإلهية

و..

post

بقوة الحياة , بنسغ الكون

سأبعدك عن ذاكراتي

يا بقية حب مجنون

إلتحقت بمدرسة داخلية للراهبات حتي تضع حداً للصراع المحتدم بين جدتها وأمها حول تنشئتها ورسم وجهتها وهي بعمر الثالثة عشرة وتعد تلك الخطوة بمثابة بذرة شجرة جورج ساند الخاصة والتي ورفت وتمددت أغصانها وتجلب ثمارها فيما بعد.

 

وُلدت في باريس لأسرة أرستقراطية في بأول يوليو سنة 1804 وتُوفيت في الثامن من يونيو سنة 1876

عاشت مع جدتها في الريف بعد رحيل والدها الذي توفي شاباً وهى بعمر الأربع سنوات وزواج أمها التي فضلت العيش بباريس علي أن تذهب إليها أمانتين كل فترة بينما الجدة كانت تقيم بنوهان بقلب الريف الفرنسي والتي إهتمت بتعليمها وتثقيفها كما هيئت لها حياة مستقلة فعلي يدها تعرفت علي كتابات شكسبير وأرسطو وعمالقة الفكر وكبار رموز والأدب العالمي.

 

تزوجت وهى بعمر الثامنة عشر عام 1822 من ضابط عسكرى بن بارون وعليه لقبت بالدوقة وأنجبت أبناً وإبنة هما موريس وصولاج وعندما رحلت جدتها اضطربت حياتها وإنقلبت رأساً على عقب فهجرت زوجها وقررت أن تنفصل عنه وتم ذلك بعد بضع سنوات كما تركت الريف وعادت إلى باريس وهناك عاشت بحرية شبه مطلقة غير مبالية بالقيم المتوراثة وتقاليد طبقتها الأرستقراطية

 

تمكنت من الكتابة في مجلة لوفيجارو وذلك بعدما تعرفت عن طريق أصدقائها بصاحب المجلة والذي حاز أسلوب كتابتها ونوعية موضوعاتها على إعجابه

وفي عام 1931 كتبت أول رواية لها بعنوان (وردة بيضاء) مشاركة مع الأديب الشاب وقتها جول ساندو الذي كان صديقا لها ومن اسمه جاء لقبها وإسمها المستعار ( ساند ) ربما كان عن إقتراح منه أو لسبباً أخر يتعلق بساند نفسها أما بشأن الكتابة فلم تفضل تكرار التجربة معه وابتعدا ومن بعدها بعام نشرت رواية منفردة بعنوان (إنديانا ) عام 1832 لتحقق وتلقي نجاحاً وشهرة كبيرة فى الوسط الأدبي فيما أجمع النقاد علي ميلاد موهبة أدبية حقيقية تستحق العناية بها وتقديم النصح والثناء والإشادة ثم جاءت روايتها الثالثة (فالنتين) عام 1833 لتنشرها أيضا تحت أسم (ج- ساند) وتلتها رواية (ليليا) عام 1834 ثم (جاك) عام 1835 ورواية (موبرا) عام 1836

 

غمر أسلوبها فى الكتابة العاطفة الجياشة والرقة والعذوبة والبساطة مبتعدة عن التكلف أوالغموض ليأتى سلسلا متدفقاً ,تناولت موضوعات إنسانية بصبغة عاطفية شاعرية ناعمة وتارة شجية متأججة ومتقلبة ولقد أختارت أن تبتعد عن الإتجاه إلي الواقعية المتأثر بالتشاؤم بسبب الظروف السياسية المتغيرة والغير مستقرة مفضلة عليه أن تكتب عن الواقع المنشود الذى تأمله تنتخب فيه سيادة القيم الإنسانية والعدالة والعواطف النبيلة , ونجحت عبر كتاباتها في جعل قلمها يكتب عن الإنسان وليس ضمن تصنيف ما يسمي بأدب المرأة والذي غالبا ما يحاصر الكاتبات

 

وأصبحت جورج ساند واحدة من المنارات الشامخة في تاريخ الأدب الفرنسي بفضل إجادتها ترجمة ونقل أفكارها ومشاعرها وقناعاتها وأرائها عبر كتاباتها المتعددة مسرح وشعر ورواية وصحافة إذ مكنتها أجواء الثراء الأدبي والفني في باريس بتلك الحقبة من تاريخ فرنسا حيث زروة الرومنطقية وكما تناولت فى أعمالها الجوانب الإنسانية والرومانسية الخالصة أخذت تهتم بأحوال بقية طبقات الشعب فكتبت عنهم منادية بتوفير حياة لائقة ومنحهم كل حقوقهم , واستحقت ما حققت من مكانة مرموقة بتأريخ الأدب الفرنسي . ومن خلال الصالون الأدبي الخاص بها إستقبلت وتوافد عليه كبار المفكرين والكتّاب ممن عاصروها يطرحون قضايا الوطن والثقافة وكافة جوانب الإبداع لصنع فضاء رحب وغني أضاف وهجاً خاصاً بساند إلي الحركات الفكرية الساعية إلي مزيداً من التنوير والإزدهار.

 

بعد مرور خمس سنوات من صدور روايتها الأولي صدرت طبعة مجمعة لأعمالها بلغت أربعة وعشرين مجلداً و أشتهرت بأدب الرسائل وبسرعة كتابتها لأعمالها

حيث كتبت روايتها (فاديت الصغيرة ) في غضون أربعة أيام فلُّقبت بالكاتبة المتدفقة كالنهر , وكتبت ضمن أدب السيرة الذاتية كتاب (قصة حياتي) والذى تناولت به جانب من حياتها الشخصية بخاصة تجاربها الغرامية والعاطفية وأسماء من أرتبطوا بها بقصة حب مثل جوستاف فلوبير , سانت بوف, بلزاك,دولاكروا ,فريدريك شوبان, ألفريد دي موسيه , تضمت مراسلات من وإلي عشاقها ومحبيها وبعض أقاربها وأصدقائها وحظي ما كتبت من السير الذاتية إقبالاً كبيراً من القراء وحققت نسب مبيعات عالية وقد يرجع السبب في ذلك إلي أنها بمثابة تأريخ لحقبة هامة من تاريخ فرنسا بل وأوربا حيث أستعرضت مظاهر الإضطرابات السياسية التي سيطرت علي معظم أرجاء القارة بالإضافة إلي ما ظهرت من خلالها طبيعة الحياة حينها وأجوائها من الناحية السياسية والإجتماعية والأدبية خلال القرن التاسع عشر

 

ولطالما شكلّت قصص علاقاتها الغرامية مادة خصبة لتبادل الأحاديث بداخل أروقة الصالونات الأدبية الأوربية ودارت وكثرت الأقاويل بخصوصها كما تناول سيرتها الباحثين والمهتمين بأدب تلك الفترة ورصدوا أعمالها وتجاربهاوكل ماكتب وقيل عنها وقتها بينما

 

عمد راح بعض ممن عاصروها بهدف التقليل من قدراتها الإبداعية وحجم موهبتها وأخذ نفس المنحي عدداً ممن أتي من بعدهم بغير موقف محايد وبحث دقيق أو دراسة محققة وتمت مهاجمتها بضرواة حتي أن الرسوم الكاريكاتيرية ببعض الصحف والمجلات أظهرتها بهيئة إمراة مسترجلة ترتدى أزياء غريبة غير مألوفة وتضع البايب في فمها وتقدم على ممارسات لاأخلاقية وكأن إرتداء البذلة وتدخين السجائر وصمة عار وربما يعود هذا الموقف المتشدد ضدها أن ذلك الوقت كان تحرر النساء أمراً مستهجناً وغير مقبول

 

قيل أن أحد مدرسيها هو من نصحها بأن ترتدى الملابس الرجالية وربما راقت لها المشورة فعملت بها لتتمكن من دخول الأماكن المقصورة علي الرجال فكانت ترتدى السترة الرجالية والبذلات وتجمع شعرها للخلف بإحكام وتدخن السيجار طيلة الوقت وتتقلد خنجراً من الذهب وقد تتسكح في الشوارع تقصد المسارح وترتاد الصالونات الأدبية ربما لو لم تلجأ لأن تظهر بتلك الهيئة لحرمت من أغلب ماحققته والأجواء التي عايشتها والتجارب التي خاضتها حتي أنها ظلت ترتديه طيلة عمرها رغم ثرائها وتقدمها بالعمر كما كانت علي نفس الهيئة وهى تتنقل في غرامياتها وقد تقبلها كل من عشقها وبادلها حباً بحب ممن عرفت وشكلت طبيعتها وقناعاتها وذائقتها سرور ورضي كبيرين من قبل كل من عرفوها .

 

ولأنها أحد أبناء الثورة الفرنسية فقد تأثرت بما عاصرت من حقبة مليئة بالتغيرات والمواجهات والوقائع والأحداث المتلاحقة

فحملت بعض رواياتها إشادة بمبادىء الإشتراكية والنزعة الصوفية مثل رواية (موبرا) عام 1837, ( رفيق درب في جولة فرنسا) بعام1840

ثم (طحّان انجيبو) 1842 عام و(كونسيلو) عام 1845, (خطيئة (السيد أنطوان) بعام1847

 

وبعدما إستقرت في نوهان أولت إهتماماً بالقرويين ووصفت حياتهم في روايتها بركة الشيطان1846 وأيضا في روايتها ( فاديت الصغيرة )عام1849,(فرنسوا الحقول)عام1850,(عازف المزمار) عام1853

ومع تقدم العمر استطاعت أن تحقق حلماً لديها وهو مساعدة الأخرين بالقيام بأعمال خيرية ووجد فيها القرويون سيدة نوهان الطيبة

أحتفي بساند وأشاد بمؤلفاتها وبكيانها ببعديه الأدبى والإنساني شخصيات بارزة في عالم الفكر والأدب منهم الشاعر الأمريكي واليت ويتمان والذى عد روايتها (كونسيلو) درة أدبية ثمينة وقد ذكرتها الشاعرة إليزابيث براوننج في قصديتين من شعرها أما الروائى الروسي الكبير فيودور ديستويفسكى فقد ترجم إحدى رواياتها إلي الروسية كما ذكرتها الكاتبة البريطانية فرجينا وولف في كتابها الشهير (غرفة واحدة للمرء وحده ) قائلة :”إنها كانت كما تبّين كتاباتها ضحية الصراع الداخلي وقد كانت تتخفي خلف أسم رجل حتى لاينكشف أمرها وتظل تبدع بحرية وطلاقة ”

 

ورأي الفيلسوف أيرنست رينان قائلا: أن روائع جورج ساند ستظل تُقرأ بعد ثلاثة قرون كما قال فولتير : ساند روائية تجسد المجد الفردي للأدب النسوي

وكما يعطينا الحب فإنه يأخذ منا فقد أرهقت على ما يبدو ساند قلبها في الحب فصرخت قائلة متألمة : دعوني أهرب من وهم السعادة الكاذب المجرم ,اعطوني العمل والمزيد من العمل والإنشغال والتعب والألم والحماسة والشغف ” فظلت ساند من بعد بلوغها عمر الخمسين عاماً تكتب في مختلف الظروف علي نحو منتظم وحتي وفاتها وهي بعمر الواحدة والسبعين

وعليه ظلت تكتب بحالة شغف حتى النفس الأخير لترحل متأثرة بمضاعفات مرضية أدت إلي إنسداد الأمعاء

 

خلف جنارتها أجهش بالبكاء حزناً عليها بلزاك وفلوبير اللذان كتبا قائلين عنها :إنها كاتبة موازية لهما

 

وقد لقُبت بروائية الأرياف لولعها وتأثرها بالطبيعة الريفية ومكوثها لفترات شبه متصلة به وبفضله نما لديها حب التأمل ومداومة التفكر والميل إلي الصمت الحكيم مما أضفي على شخصيتها طابعاً سحرياً سلطوياً علي قلوب من يقترب منها علاوة علي جمالها الإغريقى المتأثر بحضور ورقة فرنسية عصرية , ولقد صدق من قال أن روائعها ستظل تُقرأ بعد ثلاثة قرون فالمكتبات تعيد طبع رواياتها وتسجل المواقع إقبالا علي مؤلفاتها والقراءة لها في عصرنا الحالي .

زر الذهاب إلى الأعلى