حوار مُتخيَّل مع عمر بن أبي ربيعة

تأليف: غريد الشيخ
دخل غرفتي وسَبَقَتْه رائحةُ العطر الأخّاذ.. دخل رافعاً رأسه حتّى لَيَكادُ يُطاوِلُ سقفَ الغرفة.. من هو؟ إنّه عمر.. عمر بن أبي ربيعة.
من منكنَّ لا تعرفُه، ولم تحلم أن يكون هو بطل مغامراتها العاطفيّة..؟ ومن منكنّ لم ترغب أن تكون هي الأنثى التي يتغزل بها، ويلاحقها من مكان إلى آخر..؟
قال: حَيَّاكِ الله أيّتها الصبية.
قلت مبتسمةً: حيّاكَ الله… تعرفُ أنّني أحبُّ هذه التّحيّة التي تعني، كما قال ابن منظور: (ملّكك الله)، إنه دعاء جميل بالمُلك..
قال: أحسنتِ أيتها الفتاة، من هنا جاء في الصّلوات (التّحيّات لله)، أي المُلكُ لله.. إنّها لُغَةٌ جميلة..
قلت: بل إنّها رائعة، فكلُّ كلمةٍ لها معانٍ مختلفة، حسب ورودها في الجملة.
قال: أراك مهتمّةً باللغة العربية ومفرداتها ومعانيها، وطبعاً بشِعرها..
قلت: أعشقُ الشعر العربيّ، ولا سيّما شِعركَ أنت..
قال: لأنَّ شعري نابعٌ من إحساس مُرهَف وقويّ ويعبّرُ عن حبّ صادق.
قلت: صادق دائماً مع كل اللواتي أحببتهنَّ وتغزّلتَ بهن؟
قال ضاحكاً: نعم، لكلّ حالة مزاياها الخاصة، وأنا أتبعُ الجمالَ أينما كان، وأتبع إحساسي أولاً.
قلت: حسناً إن مزايا شعرك كثيرة، ونحن نستطيع درس الحياة القرشية من خلاله، وخصوصاً حياة الطبقة الأرستقراطية المترفة.
قال مقاطعاً: وتستطيعين قراءة حياة المرأة العربية، التي تقضي حياتها في هذا الدعة والنعمة اللتين ـ على عفّتهما وطهارتهما ـ لا تخلوانِ من لهو ودعابة وعبث وفكاهة.
قلت: هل تُسمعني شيئاً من شعرك؟
قال: على الرَّحبِ والسَّعَة.. اسمعي:
للتي قالت لأترابٍ لها
قُطُفٍ فيهن أُنس وخَفرْ
قد خلونا.. فتمنّين بنا
إذ خلونا اليوم.. نُبدي ما نُسِرْ
فعَرَفن الشّوق في مُقلتِها وحَبابُ الشوق يُبديه النظـرْ
قُلن يسترضينها: مُنْيَتنا
لو أتانا اليوم في سرٍّ عُمَرْ
بينما يَذكُرنَني أبصرنني
دون قَيد الميل، يعدو بي الأغَرّْ
قالت الكبرى: أتعرفنَ الفتى؟
قالت الوسطى: نعم… هذا عُمَرْ
قالت الصُّغرى وقد تَيَّمْتُها
قد عرفناه.. وهل يخفى القمر؟
ذا حبيبٌ لم يُعَرِّجْ دوننا
ساقَه الحين إلينا والقَدَرْ
فأتانا حين ألقى بَرْكَـهُ
جَمَلُ الليل عليه واسْبَطـرْ
ورُضاب المسك من أثوابـه
مَرْمَرَ الماء عليه.. فنضرْ
قد أتانا ما تمنَّينا وقـد
غُيّبَ الإبرامُ عنّا والقدرْ
قلت: أحسنتَ التَّغزُّلَ بنفسك، ولا أحد يجهلك، وكيف يجهل الناس القمر؟
قال: إنني كذلك والله.
قلت: نرى في أشعارك الكثير من هذه الحكايات الظريفة، التي رغم ما فيها من دموع وشجن وشكوى لهجر الحبيبة، ولكنها لا تدمي القلب كما أشعار العذريين أصحابك.
قال: ليسوا أصحابي، فنحن نختلفُ في وجهات النظرِ، وفي التعبير عن الحب.
قلت: إن الشاعر منهم يحبُّ محبوبةً واحدةً ويخلصُ لها، فيتألَّمُ لغيابِها ويشكو القدر، أمّا أنت..؟
قال مقاطعاً: أنا أيضاً أحبُّ وأُخلصُ وأتألَّم.
قلت: لكنك القائل:
سلامٌ عليها ما أحبّتْ سلامَنا
وإن كَرِهَتْه فالسّلامُ على أخرى
قال: نعم، أنا أحبُّ من تحبّني وترغبُ بي، وتعرفُ مزاياي الكثيرة..
قلت: أحسُّ أنّك تحبُّ وتصنعُ المغامراتِ، وتَهجرُ وتُهجَرُ حتّى تكتبَ الأشعار؟
قال: ربما، كلُّ الشّعراء والمبدعين بحاجة إلى تجارب خاصة وإلى مغامرات..
قلت: وبحاجةٍ إلى بعض الألم والهجر والحرمان أحياناً؟
قال: نعم.. أنا كنتُ أشعرُ هذا الحرمان والشوق المبرح، حتى لكأن فِراشي بات يُنبتُ الإبَرَ، اسمعي:
ما كنت أشعر إلا مذ عرفتكـم أنَّ المضاجعَ تُمسي تُنبتُ الإبــــرا
لقد شَقِيت.. وكان الحين لي سببًا
أن عُلّقَ القلبُ قلباً يُشبِهُ الحَجَــــرا
قد لُمت قلبي وأعياني بواحـدة فقال لي: لا تَلُمني وادفعْ القـــــدرا
إنْ أُكرِهَ الطَّرْف يَحسِرُ دون غيركم ولست أُحسِنُ إلا نحوكِ النَّظــــرا
قالوا: صَبَوت.. فلم أكذّب مقالتـهم وليس ينسى الصِّبا إنْ واله كبــــرا
قلت: شقاءٌ وأَلَم ولوم للقلب الذي لا يعرف الاختيار.
قال: تأكّدتِ إذاً أنني أحبُّ حباً صادقاً؟
قلت ضاحكة: أنا متأكّدة أن صاحبَ القلب المُرهف يحبُّ ويتألّم.. وأنتَ فعلاً كذلك.. ولهذا فأنت بلا مُنازع زعيم الغزليين من حضر وبادية..
قال مقاطعاً: إن الغزلَ الخالص يا صديقتي لم يوجدْ عند العرب إلاّ مرّةً واحدة في أيام بني أمية، ولم يكن له قبل الإسلام وجود مستقلٌّ.
قلت: نعم، لقد كان شعراء الجاهليّة يُعنونَ بالغزل على أنه وسيلة شعرية إلى ما كانوا يذهبون إليه من مذاهبهم الشعرية المختلفة، فلا بدَّ للشاعر أن يبدأ قصيدته بالغزل لينتقل إلى أغراض مختلفة.
عمر: هذا لأنَّ الغزل هو أقرب هذه الفنون إلى النفس البشرية..
قلت: ولمعرفتك أنّه أقرب الفنون إلى النفس البشرية التي ترغب في التقرُّبِ منها، جعلتَ كلَّ شِعرِكَ في موضوع الغزل والحبّ والشوق والهيام، فأنت بلا منازع (أوصف الشعراء لربّات الحجال).
ضحك وقال: أشكرك، إنّها مسؤولية كبيرة أتحمّلُها بفخر واعتزاز.
قلت: وكنتَ أهلاً لهذا اللّقب، فأطلقَ النّقّادُ على شعرك (الفستق المُقَشَّر).
عمر: قد يكونُ الغزل أتاني من أمّي الحضرموتية، ألم تسمعي ما يقال: (غزلٌ يمانٍ، ودَلٌّ حجازيّ).
قلت: نعم.. إنَّ العرب كانت تُقرُّ لقريش بالتقدّم في كلّ شيء عليها إلا في الشعر، حتى جئت أنت، فأقرّ لها الشعراء بالشعر أيضاً ولم تنازعها شيئاً.
قال: سعيدٌ أنا بهذا الكلام.. اسمعي:
ألا قل لهند: احرجي وتأثّمـــي ولا تقتليني.. لا يَحلُّ لكم دمـــي
وحُلِّي حبالَ السِّحرِ عن قلب عاشق حزينٍ، ولا تستحقِبي قتل مسلـم
فأنت، وبيت الله، همِّي ومُنيتــي وكبر مُنانا من فصيح وأعجـــم
ووالله ما أحببت حبّك أيِّـمــاً
ولا ذات بعلٍ يا هُنيدة فاعلمـــي
فصدّت وقالت: كاذبٌ.. وتجهَّمَـتْ.. فنفسي فداء المُعرِضِ المُتَجهِّــم
فقال وصدّت: ما تزالُ مُتَيَّمـــاً صبوباً بنجدٍ ذا هوى مُتَقَـسَّــمِ
ولمَّا التقينا بالثّنيّةِ أومضــََـت مخافة عين الكاشحِ المتنمــــم
أشارت بطرف العين خشية أهلهــا إشارة مخزونٍ ولم تتكلـــــــم
فأيقنت أن الطَّرْفَ قد قال مرحبـــاً وأهلاً وسهلاً بالحبيب المُتَيَّـــــم
قلت: إنها همّك ومُناك ولم تحبّ غيرها.. إذاً ماذا حصل لك مع كلثم بنت سعد المخزومية؟
لمعت عيناه وأجاب: كلثم.. لقد أحببتُها وشُغِفْتُ بها، أرسلت يوماً إليها رسولاً، فضربتها وحلفتها وأحلفتها ألا تعاود، وصرت أرسل إليها الرسل، وتفعل مثلما فعلت أول مرة.. فتحاماها الرسل.. لكنني ابتعت أمةً سوداء لطيفة رقيقة، وأحسنتُ إليها وكسوتها وآنستها وأعلمتها خبري، وقلت لها: إن أنت أوصلت الرقعة إلى كلثم وقرأتها فأنت حُرَّة، ولك معيشتك ما حييت، فطلبت منّي أن أكتب مُكاتبةً بيني وبينها تثبتُ أنّها ستكون حرّة، وأن أكتب في آخر هذه المكاتبة حاجتي، ففعلت هذا، فأخذَتْها ومضت إلى باب كلثم، فاستأذنت، ودخلتْ عليها فقالت لها: من كاتبك؟
قالت: عمر بن أبي ربيعة الفاسق، فلتقرئي مكاتبتي، فمدّت يدها لتأخذها، فقالت لها: لي عليك عهد الله أن تقرئيها، فإن كان منك إليّ شيءٌ ممّا أحبُّه، وإلا لم يلحقني منك مكروه، فأعطتها الكتاب فإذا أوله:
من عاشقٍ صبٍّ يسيرِ الهوى
قد شفّه الوَجدُ، إلى كلثـــــــم
رأتك عيني فدعاني الهــوى
إليك للحين ولم أعلــــــــم
قتلتنا يا حبّذا أنتــــــم
في غير ما جرمٍ ولا مـأثــــم
واللهُ قد أنزل في وحيــــه
مُبَيِّناً في آيه المُحْكَــــــــم
من يقتلُ النفسَ كذا ظالمًا
ولم يُقِدها نفسه يظلــــم
وأنت ثأري فتلافي دمــي
ثم اجعليه نعمة تنعمـــــي
وحكّمي عدلاً يكن بيننــــا
أو أنت فيما بيننا فاحكمــــي
وجالسينا مجلساً واحـدًا
من غير ما عارٍ ولا مــحرم
وخبّريني بالذي عندكـــم
بالله في قتل امرئٍ مسلــــــم
فلما قرأت الشعر قالت لها: إنه خدّاعٌ ملق، وليس لِما شكاه أصل.
فقالت لها: يا مولاتي فما عليك من امتحانه؟
قالت: قد أذنتُ له، فقولي له إذا كان المساء، فليجلسْ في موضع كذا وكذا حتى يأتيه رسولي، فلما جاءني الرسول مضيت معه حتى دخلت إليها، وقد تهيَّأتْ أجمل تهيئة وزيّنتْ نفسها ومجلسها، وجلست لي من وراء الستر، فسلمت وجلست، فتركتني حتى سكنت، وقالت أخبرني يا فاسق، ألست القائل:
هلا ارعويت فترحمي صبًّا
صديان لم تَدَعي له قلبــا
جَشِم الزّيارة في مودّتكــــم
وأراد ألا ترهقي ذنبـــــا
ورجا مصالحةً فكان لكـــم
سلمًا، وكنتِ ترينه حربا
يا أيها المُصفي مودتــــه
مَن لا يزال مسامياً خطبا
لا تجعلن أحداً عليـــك إذا
أحببته وهويته ربـّـا
وصِلِ الحبيبَ إذا كَلِفت بـه
واطوِ الزيارةَ دونه غبّــا
فلذاك أحسنُ من مُواصَلَــةٍ
ليست تزيدك عنده قربــا
لا.. بل يَمَلّك عند عودتـــه
فيقول هــــاهِ وطالما لبّى
فقلت لها: جُعلتُ فداكِ، إنَّ القلب إذا هَوِي، نطقَ اللسان بما يهوى
قلت: وماذا حصل هل رضيَتْ عنك؟
قال عمر بفخر: طبعًا، ربحت أنا، فتزوجتها وأنجبنا ولدين.
قلت: بعد نعم، والثريا وهند ورملة وعائشة.. ظفرتَ والله بامرأة تصفحُ عنك وتحبُّكَ، وترضى بك زوجًا.
عمر: لأنني أحببتها حبًّا صادقًا، وكتبت فيها الكثير من القصائد.
قلت: نلمح هذه الحياة الأرستقراطية، ولكن لماذا ابتعدت عن الحياة السياسية واجتنبتها؟
قاطعني: أنا لم أجتنب السياسة، ولكنني جُنِّبْتُها، لقد صُرِفْنا في العهد الأمويِّ عن السياسة إلى الغزل، فنشأت ظواهر عدّة، منها: الغزل العذريّ، ومنها الغزل الذي ينسب إليّ، والذي يسمّونه الإباحيّ، وهو ليس كذلك، فأنا قد أحببتُ وتَغزَّلتْ.
قلت: على كلِّ حال، نحن مدينونَ للسياسة الأمويّة التي أنتجت لنا هذا العدد من الشعراء، الذين لم يُلوّثهم غدرُ السياسية، فقدَّموا لنا الشِّعرَ النقيَّ الصّافي.
عمر: رُبَّ ضارَّةٍ نافعة، إنَّ إبعادَنا كان مفيدًا للشعر العربي، فهو يمثّل العصر الذي نعيش به والبيئة التي نحيا فيها.
قلت: بالإضافة إلى تمثيل البيئة الاجتماعية في عصرك، فإن شعرك يتميز بالسهولة وشدة الأسر، وحسن الوصف والقصد للحاجة..
قال: ولا تستطيعين إنكار ميزة أخرى، أنني عرفت المرأة وعرفت كيف أخاطبها وأدخل إلى قلبها، وقد عبَّرْتُ عمّا تريده بدقة..
قلت: ويتميّز شعرُكَ أيضاً بطلاوة الاعتذار، الذي تحسنُه خالطًا إياه ببعض الدموع والتشكّي والاسترحام..
قال ضاحكًا: أنتن تُرِدْنَ ذلك.. فالمرأة تحبُّ الرجلَ الذي يبدي شغفَه بها ويسهر الليالي ويعدّ الساعات.
قلت مُمازِحةً: حقًّا إنك صديق المرأة والمُدافع عن حقّها في المغامرة، وممارسة حقها في أن تُحِبَّ وتُحَبَّ.






