القول القريب في حكم الاحتفال بميلاد الحبيب للحافظ ابن حجر.

بقلم : د. عطية لاشين أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر وعضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
يُعدّ الإمام ابن حجر العسقلاني من أئمة الإسلام الذي ذاع صيتهم حتى صار علمًا من أعلام الأمة، فإذا قيل الحافظ في كتب الحديث فيُقصد به الإمام ابن حجر شيخ الإسلام، وقد كان له كلام نفيس وتأصيل حول فكرة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومما قاله هنا : يقول ابن حجر رحمه الله :
“أَصْلُ عَمَلِ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَحَاسِنَ وَضِدِّهَا، فَمَنْ تَحَرَّى فِي عَمَلِهَا الْمَحَاسِنَ وَتَجَنَّبَ ضِدَّهَا كَانَ بِدْعَةً حَسَنَةً وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهَا عَلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ أَغْرَقَ اللَّهُ فِيهِ فرعون وَنَجَّى مُوسَى فَنَحْنُ نَصُومُهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى»”.
“فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ فِعْلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ إِسْدَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، وَيُعَادُ ذَلِكَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنَ النِّعْمَةِ بِبُرُوزِ هَذَا النَّبِيِّ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَى فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، بَلْ تَوَسَّعَ قَوْمٌ فَنَقَلُوهُ إِلَى يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ عَمَلِهِ”.
“وَأَمَّا مَا يُعْمَلُ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى مَا يُفْهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّدَقَةِ وَإِنْشَادِ شَيْءٍ مِنَ الْمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ وَالزُّهْدِيَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْقُلُوبِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ السَّمَاعِ وَاللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي السُّرُورَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا بَأْسَ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، وَمَا كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا فَيُمْنَعُ، وَكَذَا مَا كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى”.
يقول الإمام السيوطي تعليقا على كلام الإمام ابن حجر :
“وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع يوم لولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلى على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات، ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى “عرف التعريف بالمولد الشريف” ما نصه: “قد رؤي أبو لهب بعد موته فقيل له ما حالك؟. قال في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة إثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا وأشار لرأس أصبعه وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبإرضاعها له، فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحة ليلة مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به ، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم.
ومن الأدلة الدالة على مشروعية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد البعثة وقد سقطت العقيقة عنه لأن جده عبد المطلب عق عنه أثناء ولادته وهذا يدل على مشروعية تكرار شكر الله على النعمة ولا نعمة أعظم من ولادته وبعثته٠
ومن الأدلة الدالة على مشروعية الاحتفال بمولده الشريف أنه كان صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين وحينما سئل عن ذلك قال : “ذلك يوم ولدت فيه ” أفلا يدل ذلك على مشروعية الاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم٠
ومن الأدلة الدالة على مشروعية ما تقدم قول الله عز وجل مبينا الغرض من بعثته صلى الله عليه وسلم وعبر المولى عن ذلك بطريق القصر والحصر فقال سبحانه :(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) سورة الأنبياء آية (١٠٧).
فإذا ضممنا إلى ذلك قول الله عز وجل :(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) سورة يونس آية(58)٠
أدت هاتان الآيتان إلى مشروعية الفرح بفضل الله وبرحمته وسيدنا محمد.صلى الله عليه وسلم من آثار رحمة الله فيشرع الفرح بمولد هذه الرحمة ٠
وأخيراً وليس آخرا مما يدل على عدم بدعية الاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم قاعدة من القواعد الفقهية ونصها : “الأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد ما يدل على التحريم وأنا أسائل من يقول ببدعية الاحتفال بالمولد ، هل عندكم نص يفيد تحريم أو كراهية ذلك ؟؟؟!!٠
والإجابة اليقينية القطعية ليس عندهم ما يفيد عدم مشروعية الاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم فيبقى الأمر على الإباحة الأصلية٠
وصلى الله وسلم على صاحب الذكرى ٠





