الثورة والأدب العربي .. روعة محسن الدندن تحاور د. السيد إبراهيم

تستطيع الموسيقى أن تعبر عن المشاعر وجميع الإنفعالات في شتى صورها فهل تمكن الأدب العربي من التعبير عن مفهوم الثورات عبر التاريخ الأدبي وقدمها للأجيال بشكلها الصحيح والمسار الصحيح وهل يمكننا المقارنة بين الأدب العربي والغربي وما مسار كل منهما

تحدثت في حوار سابق مع ضيفتي الدكتورة رانيا الوردي الأستاذ المساعد بقسم اللغة الألمانية بكلية التربية جامعة عين شمس عن الأدب الغربي وتناولنا شخصيات أدبية غربية
واليوم نكمل حوارنا مع ضيفي
الدكتور السيد إبراهيم أحمد، رئيس قسم الأدب العربي باتحاد الكتَّاب والمثقفين والعرب
أرحب بك مجددا صديقي الرائع وأبدأ معك حواري

1ـ لنتعرف معك عن الأدب الثوري العربي دكتور؟

كل الترحيب الصادر من قلبي وعقلي لهذه الرحلة الحوارية الجديدة في فضاء معرفي بصحبة الكاتبة والشاعرة والمحاورة الكبيرة الأستاذة روعة محسن الدندن، ومعالي الدكتورة رانيا الوردي الأستاذ المساعد بقسم اللغة الألمانية بكلية التربية جامعة عين شمس..

لن أبدأ بتعريف الثورة ومن ثم لن أستدعي ارتباط الأدب العربي بالثورة أيا كانت طبيعتها أو تعريفها، أقرر أن الثورة بدت أكثر في الشعر العربي لكن ليس بمعنى المفهوم الثوري الحديث؛ فقد عرف الأدب العربي الجاهلي شعر الحماسة الذي تمحور حول الشجاعة خاصة على المستوى الفردي، والبطولات الحربية التي اقترنت بوصف المعارك وتصوير المشاهد أثناء التحام الجيوش عند النزال، ثم عرف الحماسة شعراء العصور العربية فيما بعد خاصة في العصر العباسي ومن أهمهم شعراء لامسهم الإحساس الثوري أبو تمام والبحتري ولحق بهما أبو الطيب المتنبي الذي اشتهر عنه ثورته على الأوضاع الإنسانية في مجتمعه.

post

لكن من الإنصاف أن لا نتجاوز فترة ثورية هامة في الأدب العربي ودارت حول أصحابها دراسات كثيرة وهي فترة الصعلكة في الشعر العربي وظهور الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي وامتدوا حتى العصر العباسي مرورا بالعصر الأموي وكانت ثورتهم على المجتمع الذي يعيشون فيه وإن اصطبغت بالصبغة الاقتصادية؛ فقد كانت ثورة على البخلاء من الأغنياء وانحيازا للجياع والفقراء والمهمشين، وثورة على الانتماء للقبيلة وكسر ذلك التابو المقدس في خروجهم عليه حيث الفضاء الواسع الصحراوي دون أن يخرجوا على القيم العربية القبلية أيضا.

ثم عرف الأدب العربي عبر شعره الفخر بالأبطال والتغني بالبطولة وأمجاد النصر، كما عرف كذلك شعر المقاومة سواء أكان بالفصحى أم بالعامية، ولعل الصعاليك من هذه الناحية يجمعون بين شعر المقاومة وشعر الثورة، ولا ننسى في هذا الشأن القصائد التي تغنت بالمقاومة بطول البلدان العربية ضد المحتل البريطاني والفرنسي والإيطالي والشواهد أكثر من أن أذكرها في هذه المساحة الضيقة، وقد واكبت كافة الثورات العربية في العصر الحديث بدءًا بالثورة العرابية ومرورا بثورات الجزائر والعراق وغيرهما ويتبقى شعر المقاومة مقرونا بالقضية الفلسطينية والعديد من القضايا العربية الأخرى كما رصدتُه في مقال لي عن أدب المقاومة في مسقط رأسي “السويس” ضد المغتصب الصهيوني وهو نفس العدو المشترك لكل العرب.

2ـ الأدب العربي بشكل عام هل طرح الثورة الفكرية أم الثورة الدموية؟

هنا لابد من التعريف بالثورة قبل الإجابة عن سؤالك روعة هانم، وذلك وصولا إلى أن الثورة لا يعيبها أن تقترن بالدم، وربما لمحتُ في سؤالك تلميحا بأن العرب والدم صنوان حتى في ثورتهم والأجدر بأن تكون الثورة فكرية فقط، وللعرب أيضا ثوراتهم الفكرية عبر أدبهم وتاريخهم، ولكن لا نستطيع أن نوحد الثورة بمفهومها تحت تصنيف واحد فقط؛ فالثورة ثورات كما تعلمين.

إن من مفاهيم الثورة أنها تعبر عن الأعمال العنيفة التي يقوم بها جماعة من الأفراد لانتزاع السلطة من يد جماعة أخرى أو استبدالها بجماعة حاكمة أخرى، من خلال الانقلابات العسكرية أو المدنية، وهو ما يرتبط بالتغيير المفاجئ غير المتوقع عبر وسائل غير مألوفة وربما غير سلمية، والحاجة إلى إراقة الدماء تتوقف على مهارة الثوري في اجتثاث عناصر المرض القاتل من بنية المجتمع بإسالة الدماء، أو بدونه كما يرى بعض الكتَّاب.

لم يحدد الأدب العربي في لجوئه للثورة نوعيتها أثورة فكرية أم ثورة سياسية بيضاء أي بدون دم، غير أن الدكتور طه حسين يرى أنه لا يعرف ثورة سياسية بالمعنى الحديث أو القديم للفظ الثورة، إلا وقد سبقتها ثورة أدبية عقلية كانت هي التي أغرت الناس بها ودفعتهم إليها وأخرجتهم عن أطوارهم فلم يستطيعوا صبرًا على ما يكرهون ولا إبطاءً عما يريدون.

ولذا فهو يرى أنه يجب علينا أيضا أن نعترف بأن هناك حالات يكون فيها للثورة ما يبررها. فهناك حالات تكون فيها الحكومة الشرعية سيئة بدرجة أن يبدو إسقاطها بالقوة مجديا، رغم ما ينطوي عليه ذلك من خطر الفوضى المرتبط بها. وهذا الخطر الحقيقي تماما.

وهو ما يجب أن نتعامل معه من خلال الأدب العربي الذي كان مُمَهِدًا للثورة عقليا أو فكريا أو عن طريق الكتابة المسرحية أو الروائية أو القصصية غير أن كلمة أو دعوة الإمام جمال الدين الأفغاني كانت الأكثر صراحة وإعلانا حين خاطب الفلاح المصري يستنهضه نحو الثورة التي لن تأتي بغير المقاومة والسلاح والدم ذلك أن الظلم الجاثم فوق صدره متعدد الجنسيات من بريطانيين وأتراك وفرنسيين وشركس وغيرهم، قائلا: (عجبتُ أيها الفلاح تشُق قلب الأرضِ بفأسك فلِمَ لا تشق بنفس الفأس صدر ظالميك؟!).

FB IMG 1627388422284

3ـ هل ناقش الأدب العربي الثوري الأوضاع من باب التخفيف من ضغط الحكومات أم هو أدب ثوري للإصلاح من خلال ما قدمه الأدباء وليس تابعا للحكومات؟

الأدب الذي تتحدثين عنه لا يقترن بالثورية أبدا في أي لغة من لغات العالم، ويغلب على هذا النوع من الأدب العديد من الصفات التي من أبرزها أنه أدب رسمي تابع للدولة في توجيه مساراته وتبني قضاياه والدفاع عنها ومبارزة خصوم الدولة في نقد سياساتها، وهناك الأدب الموجه والبعض يسميه الأدب الهادف أو الأدب الموجه بالأهداف النبيلة وذلك أدب هدفه بناء القيم والأخلاق والآداب والالتزام بتعاليم الدين، ومنه الوجه السلبي الذي يتم توظيفه سياسيا بهدف تبني قيم الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها وتوجيهها نحو الشعب.

وهناك الأدب المؤدلج ولا يخلُ أدب من تبني كاتبه لأيديولوجية ما، فلكل كاتب أيديولوجيته الدينية أو الفكرية أو العلمية أو الاقتصادية أو السياسية، وحتى عندما حاول ليون تروتسكي تحديد العلاقة بين الأدب والثورة لم يكن يقصد بها الثورة بعامة وإنما قصد الثورة البلشفية وبالتالي صاد الأدب الثوري في هذه الحالة مؤدلجا وموجها وهادفا وليس ثوريا ولا حرا.

والأدب منه ما يسبق الثورة ويكون داعيا لها ولا يمكن أن يكون ملتحفا بغطاء أي من الحكومات التي تمقت لفظة الثورة فكيف تدعو إليها؟! وهناك الثورة التي تفرز أدبها، ولذا فيجب العلم أن حدود “الأدب الثوري” قد تبدو محدودة بإطاريها: الزماني والمكاني؛ فقد نفتقد التعميم في الاصطلاح أو التعريف، وهو ما ينبغي التنبه له عند تناول الأدب الثوري من حيث وجوب نسبته لثورته التي نتحدث عنها.

على أن الأدب الثوري وما دار حوله من تعريفات تضفي عليه صفة العمومية وعدم الارتباط سوى بالمفهوم “الثورة” دون ارتباط بالجغرافية، ويقوم به دومًا مجموعة من الكتَّاب والمفكرين والشعراء الأحرار في كل بلد ومهمته استنهاض همم أفراد الشعب، وإطلاعهم على المغزى من القرارات الرسمية التي يشيعها سدنة الحكم، وتبصيرهم بما يراد بهم من استعباد وابتزاز وتجهيل وتبعية، وفي النهاية تنجح رسالة الأدب الثوري حين تصل إلى قلب وعقل ووعي الشعب بالتيقن والتصديق وكونها خالية من آية مآرب ذاتية لأصحابها، ومن ثم تتفاعل العقول والإرادات من أجل القيام بثورة تتراكم عبر مدى زمني يطول أو يقصر بحسب همة الثائرين في كل وطن.

4 ـ ماهي أهم القضايا التي تناولها الأدباء خلال الثورات العربية وقبل الثورات؟

كانت أهم القضايا التي تتمحور حول الثورات العربية في العهود الكولونيالية أو الاستعمارية في التحرر من الاستعمار بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، وذلك كخطوة أولى للتحرر من المحتل الأجنبي الغربي أيا ما كانت جنسيته ثم استمرار المناداة بالاستقلال للتحرر من الاستعمار العثماني الذي يختلفون حول إيجابياته وسلبياته ونعمة هو أم نقمة على الشعوب العربية، والانتصار للخلافة أم للنمط الأوروبي في الحكم، والثورة عبر الدين بحثا عن الهوية الوطنية والدينية أو بحثا عن التقدم والازدهار بالتملص من تبعات الدين نحو العلمانية التي رآها البعض، ويرونها حتى تاريخه، فرصة ذهبية للحاق بركب الغرب الذي جاوزنا بملايين الفراسخ.

فالقضايا التي جذبت اهتمامات الأدب العربي كانت نابعة من الواقع العربي المأزوم في راهنيته الحاضرة في عصره، وقد تبدأ سياسية ثم تنتهي فكرية مدعومة بالجدل الذي لا يختص به النخب من المثقفين أو السياسيين أو الصحافيين أو السلطويين فقط بل يتماس مع أطياف الشعب بحسب درجات تعليمهم وثقافتهم وأعمالهم، وليس أدل على هذا مما حدث في مصر عند قيام “هوجة” عرابي أو ثورة الزعيم أحمد عرابي أو حركة عرابي التي رصدها الكاتب الأمريكي “جوان كول” في كتابه: “الكولونيالية والثورة الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي في مصر”، فالأسباب التي أدت إليها مرتبطة بانتشار التعليم وزيادة المتعلمين والتوسع في الصحافة المطبوعة وظهور التلغراف مما جعل الأخبار طازجة والمثقفين يكتبون مقالات من وحي الواقع المعيش.

لقد نجم عن ذلك ظهور الصحف الخاصة بحسب توجهات أصحابها وكتابها، ثم انتشرت دور الطباعة التي ساهمت في تخفيض أسعار النشر ليزداد الإقبال على التأليف والتصنيف وشراء الكتب، لتظهر كتب الشيخ الإمام محمد عبده والشيخ رفاعة رافع الطهطاوي وتوسعت الصحافة السياسية التي برعت في نشر كافة الآراء من كافة الفصائل الوطنية وتوجهاتها نحو الخلافة العثمانية أو النهضة الأوروبية ويكفي أن يكون من أهم أعلام الأدباء ممن ناصروا الثورة العرابية رائد الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي والشاعر والكاتب عبد الله النديم.

5ـ أين أدب الثورة الآن في ظل المتغيرات التي تحدث بوطننا العربي أم أن أدب الثورة الحق لم يأتِ بعد؟

إذا كنتِ تتحدثين عن ثورات الربيع العربي في بعض البلدان العربية فمن الظلم أن نطالبها بأن تقدم لنا أدبا يشير إليها، ولا يعتبر العدد من الروايات الصادرة عنها مُعبرًا عن تيار ثوري في الأدب العربي المعاصر، وإذا كنا حتى الآن لا نجد أدبا للحرب يؤسس ويؤرخ لحرب أكتوبر 1973م على الرغم من السنوات التي مرت عليها فكيف نطالب بأدب ثوري معاصر، والبعض يرى أن هذه الثورات بدأت ولم تنتهِ بعد؟!

وكأن الدكتور طه حسين يجيبك من وراء الغيب عن نفس السؤال الذي تم توجيهه إليه في أعقاب قيام ثورة 23 يوليو 1952م، فيقول: (لم تكد ثورتنا تنشب وتملأ أحداثها وظواهرها قلوب الناس وعقولهم في مصر وفيما حولها من البلاد العربية، حتى أخذ فريق من الكتاب يتساءلون في إلحاح: “أين أدب الثورة؟”، ثم لم تكد الثورة تبلغ من عمرها أشهرًا قصارًا، حتى أخذ هؤلاء الكتَّاب يُظهرون اليأس وخيبة الأمل؛ لأن أدب الثورة لم يستجب لهم حين دعوه، ولم يهبط عليهم من السماء كما يهبط الغيث، ولم تتفجر عنه ينابيع الأرض كما تتفجر عن الماء والبترول).

ويرى الرجل أن أدب الثورة ليس هو الأدب الذي أنتجناه أو الذي ننتجه الآن، وإنما هو الأدب الذي سينتجه أبناؤنا وأحفادنا حين يتاح للثورة أن تبلغ غايتها وتحقق أغراضها…. فانتظر إذن أدب الثورة بمعناه الصحيح من الجيل الناشئ يوم يتاح له الإنتاج، واقرأ أدبنا هذا الثائر إن شئت، وأعرض عنه إن أحببت، فإنا لا نملك أن نعطيك إلا ما في أيدينا، وفي أيدينا أدب ثائر لا أدب ثورة، وما أعظم الفرق بين الأدبين!

إذن فنحن في مرحلة الأدب الثائر حتى الآن وهو أدب لا يقدم الصورة الصحيحة للثورة لمن عاشوها لأنها لم تكتمل بعد، وبالتالي لن تتعامل مع أية متغيرات أخرى لأنها في ذاتها متغير أيضا، ولا يستطيع التعبير عن الحدث من هو داخل الحدث حتى يهدأ الغبار الثائر.

ولا أرى أن جيلنا سيتمكن من التعبير عن الثورة بل الذي سيتحدث عنها أدباء الأجيال القادمة وسيكونون الأفضل؛ فستكون قد وصلت إلى غايتها وانقشع عنها الغبار، واستوت على الجودي وبان للمتأمل والباحث خسائرها من مكاسبها، ومن استفاد منها ومن دفع الثمن.

6ـ هل الأدباء السابقين أكثر إدراكًا للكتابة عن الواقع أو لأن الأدب يمهد الطريق لثورة سياسية؟

الأدباء هم أبناء العصر الذي يعيشون فيه ولا فرق بين كاتب وأديب في عصر ما عن كاتب وأديب في عصرٍ سبق إلا من حيث مدى وعيه بحاضره ومتطلبات المواطنين الذين يعيشون معه، وكل ظروف تاريخية يمر بها الوطن تصنع مفكريه وأدبائه، والأدب العربي زاخر بأسماء من أولئك الذين حملوا مشاعل الفكر في أزمانهم، وتُقدَر شجاعتهم بحسب الأجواء التي تسود عصورهم من الحرية أو القمع والاستبداد والمصادرة والتشهير والسحل والسجن والتعذيب ومحاربتهم في أرزاقهم ونفيهم أو ترهيبهم وتهديدهم أو إغرائهم بالسلطة والمال، فالإدراك لا يمكن أن يتخلى عن الأديب في أي عصر وإلا إذا لم يدرك فكيف يعبر عن واقعه وهو لسان حال الواقع والناس؟!

ولو كان تعبيره متجاوزا للواقع بعيدًا عنه سيلفظه من يعيشون هذا الواقع، وهو ما تستطيعين إدراكه بسهولة حين يلتف الناس حول أديب بعينه وينتظرون ما ينتجه قلمه فيلقبونه بـ “كاتب الشعب” أو “أديب الشعب” وذلك لإدراكه لواقعهم واستشرافه لمستقبلهم من خلال علاقته التبادلية معهم وإحساسه بل إدراكه لمطالبهم النابعة عن معاناتهم بالضرورة.

FB IMG 1627388424520

7ـ هل تعتقد أن الأدب يمهد الطريق للثورة أو هو أدب يلائم الظروف التي عاشها الأدباء ولا تصلح لكل زمان؟

دعينا نتفق أولا أن الأدب والفكر والفن يصلحون للخلود لكل زمان ومكان، مادامت شروط الأدب والفن والفكر موجودة فيهم، ومادام التعبير عن الأفكار الثورية حقيقيا وطازجا بطزاجة الثورة الدائمة المتصلة في الحياة الإنسانية التي تنتفض عند كل ظلم أو استعمار أو امتهان لكرامتها سيبقى الأدب الثوري، ولا أدل على ذلك أن سير الأشخاص الذين قادوا الشعوب في بلادهم ضد الطغاة ظلت خالدة في ضمير الإنسانية ولكن عبر تناول الأدب لها ونقلها عبر الترجمات لكل الشعوب ومن خلال الأدب الشعبي أيضا، والشخصيات الملهمة والقائدة موجودة في عالمنا وأدبنا العربي كلٌ بحسب تخصصه؛ فلا يمكن إحداث قطيعة معرفية بين الأديب والفنان والعالم والصحفي والعسكري إذا كانوا يجتمعون على فكرة واحدة هي “الثورة”، فقد كان الشيخ سيد درويش ثوريا حين أطلق صيحته أو أغنيته: “قوم يا مصري”، وكذلك كان كاتبها بديع خيري ثوريا حين أبدعها، وهو ما يعني تعانق الفن مع الأدب من أجل الحث على القيام بثورة هم الذين ضخوها في شرايين الثوار، لكن الأدب وحده مهما كان ثائرا لا يستطيع أن يصنع الثورة وإن كان هو من أهم روافدها.

وهو ما يعني أن الأدب في حقيقته عملا ثوريا لا بحسب المفهوم الضيق للثورة ولكن بحسب مفهومه الواسع في دنيا التغير والتغيير التي تثمر فلسفتها في نفس المتلقي حين يثور على نفسه أولا، أملا في أن يتغير من حالته التي هو عليها إلى حالة أفضل، أو نقل المجتمع من حالة التبعية المقيتة إلى حالة الاستقلالية ونشدان القومية في كل صورها، وهكذا لا تفارق الثورية الأدب ولم تفارقه في أدبنا العربي في قديمه وحديثه، وكما قلتُ سابقا أن الأديب ابن عصره يعبر عن إنسانه الذي يعيش معه، وعن البيئة المحيطة به، وعن أحلام المهمشين، ومدافعا عن حرية التعبير في مجتمعه حتى مع الذين يختلف معهم في الرأي والتوجه من الفصائل الأخرى؛ فبوصفه أديب فهو حر يدافع عن الحرية وينادي بها لكل إنسان.

8ـ أهم الأدباء العرب الذين كان لأدبهم دوره في تغيير الواقع وأحدثوا ثورة فكرية في المجتمعات العربية؟

بحسب مفهومي عن الأدب واقترانه بالثورة في مفهومها الواسع؛ فكل أديب قرأتُ له أو عنه ساهم في بناء لبنة من لبنات الثورة داخلنا، ومنذ أن قرأت رواية “زينب” للدكتور محمد حسين هيكل وقصص “إحسان هانم” و “ثريا” للراحل عيسى عبيد وهو واحد من أبرز كتَّاب القصة المصرية والعربية عرفت معنى الثورة على ظلم التقاليد الاجتماعية أولا، ثم مع عبد الرحمن الكواكبي حين كتب: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” وقد تعلمت منه: أن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل.

وجاءت كتابات عربية مصرية كثيرة على رأسها العقاد وطه حسين، وشعراء المهجر، وشعراء العامية الكبار، وكتابات الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده وبالطبع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وكتاب “خبز الأقوياء” لإبراهيم المصري، وعلى المستوى العربي في الجزائر كان هناك ترجمات “كاتب ياسين” عن الفرنسية وغيره من الأدباء الذين حافظوا على الثقافة والهوية العربية في بلادهم أثناء الاحتلال الفرنسي، والأدباء في شامنا الحبيب وثورية فدوى طوقان.

على أنه يجب القول أن الثورة الفكرية لها تعريفاتها الكثيرة، ومفهومها الذي يختلف بحسب عقل ووعي من يعتنقها، فهناك من يرى أن الثورة على الدين ثورة فكرية، والثورة على التقاليد ثورة فكرية، والثورة على فكر من يخالفه الرأي ثورة فكرية، والثورة الفكرية منظومة داخل كل إنسان، باعتبار من وصفه بأنه “حيوان مفكر”، وهي لا تتوقف عن التفكير والتغيير والثورة على الذات في أفكارها المتحجرة قبل أن تكون ثورة على الآخر.

ويبقى من الظلم أن أسمي نوعا واحدا من أنواع الغذاء الفكري بأنه الذي ساهم في تكوين الجسم العربي، وهو ما يعني أن كل من قرأ لكل الأدباء العرب استفاد من أفكارهم وأخذ عنهم، ويتبقى له بعد أن تكتمل منظومته الفكرية أن يقبل أفكارهم كما قرأها أو يرفض بعضها ويناصر بعضها، غير أن إحداث الحراك الفكري داخل العقل العربي الجمعي يستلزم وقتا ولا يحدث ضجيجا، بل يمكن قياسه من خلال التعامل اليومي مع الأحداث والناس والأسرة والدين وعند الاختلاف.

وأخيرا أيتها الرائعة إنسانا وإبداعا سعدت بهذه الرحلة معك، على قدر متاعبها، عبر الأدب العربي واقترانه بالثورة في مسيرة حافلة وطويلة أرجو أن أكون قد وفقت فيها، خالص تحياتي وتقديري كاتبتنا الكبيرة روعة محسن الدندن وإلى زميلتي في الإبحار معالي الدكتورة رانيا الوردي.

وأنا بدوري أشكرك أستاذنا الأديب الرائع الدكتور السيد إبراهيم على ما أوفيتنا به من اجابات وافية وأكثر من رائعة
وسعيدة جدا بالحوار معك ومع الغالية الدكتورة رانيا الوردي
ولهذا التعاون الكبير بينكما
شكرا من القلب
مع تحياتي لكما وللجميع ولنا لقاءات بإذن الله لننهل منكما المزيد

زر الذهاب إلى الأعلى