جوستاف فلوبير.. فوهة الأدب الفرنسي  

 
 

علي طريقته وهو المتيم بالخيال شديد الولع والتعطش بماتفرد به من جمال وسخاء وسحر والواقعية الرومانتكية التي عزف علي أوتارها مؤلفاته الأدبية ، أخاف الحياة وأخشي الناس – لجورج ساند عن صديق الدرب  فارس الأدب الواقعى الروائى الفرنسي جوستاف فلوبير الذى صنع عبقريته من المثابرة والإصرار والعمل الجاد فقد كان يمضى الساعات الطوال من أجل إختيار عبارة واحدة وأحيانا كلمة واحدة فقد كان مهوساً بجودة وتفرد ما يكتب فائق الحرص علي ألا يكرر كلمة واحدة بذات الصفحة  فكان هذا يستنزف قوته ووقته أيضا حتي أنه كان يمكث لسنوات في كتابة النص الواحد الذى وصل لأكثر من مرة إلي خمس سنوات ويذكرعنه أنه كان بصدد وصف مشهد في رواية لحقل مزروع بنبات الكرنب ولم يكن حان موسم زراعته بعد فانتظر لثلاثة شهور ليتمكن من الذهاب إلي حقل به النبات وبالوقت الذى ود أنه يصفه فيه وكان هذا في روايته مدام بوفارى .
وُلد جوستاف فلوبير لأب جراح أرد أن يصبح ابنه هو الأخر طبيباً ولكن الأبن كان شغوفا بالأدب من الصغر وقد يرجع  ذلك إلي شيئان  أن مساعدة المنزل كانت تروى له الحكايات المسلية و نشأته بالريف بطبيعته وسمته التي غذت قريحته بالخيال ومدته بقوة التصور والقدرة علي الوصف بإسهاب ودقة , إذ ولد فلوبيرفي الثالث من ديسمبر لعام 1821  بروان التابعة  لمدينة نورماندى الفرنسية والتي كان والده مديرا لأحدى مستشفياتها  ،وقد توجه إلي دراسة القانون ولكن الأدب أستحوذ عليه و كانت أولى مشاركاته الأدبية  بمجلة أدبية (أدب وإرتقاء)  في عام 1834 والتى كانت تهتم بأخبار المسرح وقتها  لتتكشف موهبته ككاتب .
وقع في  حب سيدة متزوجة إسمها  اليزا التي كانت امرأة صاحبه وذلك فى 1836 فكتب التربية العاطفية عن تلك القصة في عام  1843ثم بدأ في كتابة مذكرات مجنون عام 1838
وفي السنة التالية كتب (حلم الجحيم واليد الجديدة) وفي الوقت نفسه نشر في مجلة أدبية (روانية) اسمها الطنّان كتاب (درس طبيعى)
أما بعام1842 كتب رواية (تشرين الثاني) ولم يكن قد تجاوز  العشرين بعد
وفي يوم من أيام عام 1844 على طريق (جسر الأسقف) أصيب بصدمة عصبية الأمر الذى دفع والده  إلي  منعه من إكمال دراسته  وعاد به إلي  كرواسية  قرب مدينة روان وذلك حرصاً من والده علي سلامته وطلبا للراحة
وكانت سنة 1846 سنة حزن فقد مات ابوه واخته ومنذ ذلك الحين عاش مع امه وحيداً ونزولا عند رغبة الأطباء المعالجين بهدف شفائه من ألامه العصبية سافر إلى بلدان حارة وسافر بصحبة صديق له  فقصد الشرق وقام بزيارة مصر والعراق ولبنان وسوريا والقدس وتركيا وإيطاليا
وفي 1851 انجز كتابه (إغراء القديس انطونيوس) ثم رحل إلي  إسبرطة  واليونان ومدن أخرى ومكث هناك نحو سنتين كاملتين  وبعدها بعامان نشر روايته الأشهر (مدام بوفارى ) في مجلة باريس  والتي تميزت بواقعيتها الشديدة  وأسلوب فلوبير المعروف عنه في كتاباته من دقة في إختيار الألفاظ والكلمات وإجادة وصف الأماكن ومشاعر الشخصيات وصراعاتهم الداخلية ولب ذواتهم  وبعد مضى خمسة أعوام على البدء بكتابتها قام بنشرها فلاقت نجاحاً كبيراً وذاع صيتها كما واكبها جدلاً واسعاً  وتعرض للإنتقاد والإستنكار بسبب جرائتها والمشاهد الوصفية الصريحة التى حوتها وفي العام التالي  صدر حكم بتبرأته  ومن بعدها سافر إلي  قسنطينة و تونس وقرطاج للعمل على كتابة روايته المميزة ( سالامبو) ومن بعدها صدرت له راوية (التربية العاطفية ) والتي لاحقت نجاحاً محدوداً ومن بعدها (غرام أو غراميات القديس أنطونيوس) والتى لم تلقي هى الأخرى  النجاح المأمول منها وبعدما إستقر في باريس كتب رواية (هيروديا)
وعُرف عن فلوبير أنه كان يستوحى معظم أفكار رواياته وقصصه من الواقع العادى رغم احتقاره لهذه الحقيقة التي تجذبه فهو يقدّر الخيال والشعر والفن واللمسة السحرية للأشياء أما الواقع فهو دميم كما يراه وفقير مقارنة بالخيال وخالي من الرقة واللطف وبعيد عن  إشراقات  الفن المبهرة
ولقد كتب إلى رئيس  تحرير المجلة التى نُشرت بها  رواية (مدام بوفارى) على حلقات  قائلا” لو أنك تعرفنى حق المعرفة لكنت علمت مدى كراهيتى للحياة العادية  ، ويظنون أنى أعشق الواقع لكنى اكرهه)
كما كان  يرى ويقتنع بأن جوهر الفن  يكمن في الشعر وأنه على الكاتب أن يغوص في أعماق أسرار اللغة  وأن الموهبة الأدبية هى صراعاً قائماً  مع الكلمات  وشغفاً للقافية الرنانة وسعياً لخلق عبارات ولإيقاعات محسوسة
فهو يفضل دائما الفضاء والمدى اللامحدود  ويتلذذ بالخيال والرؤية العظيمة والصور الملحمية فهواجسه وتطلعه إلي اللامحسوس تأخذه وتحلق به بعيداً إلي عالم يضج بالحركة رغم سكونه
ورغم أنه كان برجوازياً  ويكره هذا ويهاجمه إلا أنه إستفاد من برجوازيته والتي منحته مستوى معيشي مرفه  عمل في أن لايتعجل النشر ولا ينتظر عائد من كتاباته كما ساعد في إختياره للطريقة التي كان يعيش بها فهو يمكث كثيراً في بيته يزاول حياته في شبه دعة وببطء وتأني يولي الكتابة جل وقته وجهده وكأنما خلق ليكون كاتباً فقط
وكان معجباً بالكاتب والشاعر الإنجليزى الأشهر وليم شكسبير حتي أنه قال مرةً (يخيل إليًّ أني إذا شاهدت شكسبير سارتعد خوفاً) كما كان  متأثراً بالكاتب ماركيز دو ساد  في أن التناقضات قد تكشف عن عمق بعض المعانى وتبرز جوانب جمالية غير معتادة لأمور وأشياء ومقتنعاً بوجود الحكمة حتى في  الجشع 
ومن هنا تولد تعلقه بالمستحيل  وتعطشه الدائم فالحب لديه هو جنون ومرض ، ونرى فلوبير قد أمضي خمساً وعشرين سنة من عمره في حياة التقشف والعزلة شبه الكاملة تعصف بها الأهواء الجسدية وإنعكس ذلك في روايته (غرام القديس أنطونيوس) فجاءت شاهداً ظهر بها تعطشه للأزل بوضوح هذا ومن مؤلفاته التي إنطلقت غير بعيدة عن كل ما إمتاز به فلوبير في الإسلوب والطرح  روايته  مذكرات مجنون ، عشق وفضيلة ، ثلاث صفحات من دفتر تلميذ، سمار،لغز قديم ،تشرين الثاني ،التربية العاطفي ، من خلال الحقول والرمال، والمراسلات  والتى جمعت بعد  رحيله كما كان عاكفاً علي كتابة رواية بوفار وبكوشيه  ولكنه لم يكملها والمراسلات أيضا والتي نشرت بعد أن تم جمعها بعد رحيله أيضا.
وكان أهم ما يميز فلوبير هو خياله  انه خيال خليق حتى بالجنون وطبيعة الأمراض فالمرض والألم والشعور بالفناء هى أهم أسس الفن لم يشله التشاؤم والكأبة ويبعداه عن الإنتاج الوفير فمن الألم تنبع أسمى معانى الحياة وهو بحد ذاته سخاء وعطاء وإذا ما فقده الإنسان فقد قيمته ولذا فنزعته التشاؤمية لم تخمد وتفتقد إلي النشاط والحركة بل هى تدفعه إلي الخلق الفنى الراقي فقد كان يجد من  الفن نفسه التائهة وشفائها السريع
ومن مراسلاته إلي أصدقائه ما يكشف عن ذلك حيث  قال : اعمل  إكسب اكتب مادمت قادراً على ذلك ، فنحن لانشعر بثقل الحياة على كاهلنا مادمنا نؤلف.
وفي رسالة أخرى : لايجب أن نهدأ أبداً  ففي هذه اللحظة بالذات نفكر بأنفسنا أكثر ونشعر بالمرض فعلا  فماذا هناك أرقى من الفن ؟ إنه السبيل الوحيد للخلاص وللكمال والتحرر.
كان يعمل ساعات طويلة متواصلة ويدعو الجميع إلي التمثل به وإلي اللجوء إلي العمل والتأليف فبالعمل المجدى تتحدى الحياة والملل والفناء إنه تحدِ يصل إلي درجة الكبرياء.
وقد جاءت رسائله تحمل ثمار أفكاره ويشملها إحساس غريب  أنها اللذة الأليمة التي يولدها الإبداع الفنى
وقد شرح في إحدى رسائله بإسهاب عن معانى الفن السامية (حينما تجدين نفسك وحيدة في غرفتك  أو تنظرين إلي  اللهيب في المُوقدة  تشعرين أن لاشيىء يدعمك ولاتعتمدين علي أحد ،عندئذ تحت وهن المرأة تُبعث فجأة آلهة الشعر من أعماقك وتعزف لحناً حزيناً وفرحاً معا يشبه لحن القتال  لحناً يتحدى الحياة .
تنبع روعة مؤلفات فلوبير في تلك التناقضات بين الواقعية والمثالية  فهو يريد إظهارالحقيقة عارية مجردة من القيم وهو يعتقد أيضا أن الجمال مثل النجوم لايسقط من السماء
حيرت شخصية جوستاف فلوبير الكثيرين منهم من أعجب بإنتاجه الإبداعي وإسلوبه وشخصيته وهو الذى عاش لأدبه منعزلاً عن الجميع مسخراً طاقته الإبداعية للكتابة وأخرين وجهوا له النقد شديد اللهجة واللاذع  نوعا ما مثلما قال سارتر عنه :أن فلوبير تخلي عن دوره من قضايا عصره  واختار أن يعيش الحرية الزائفة وأنه كان عديم المسؤلية والإلتزام وإن كان هذا حقه فمن حقنا أن نقول له لماذا؟. لعل منتقديه  علي حق ولكن فلوبير من صغره وهو يميل إلي العزلة حتي يذكر أنه ذهب للمدرسة وهو بعمر العشر سنوات وظل طيلة عمره مفضلاً العزلة وقضاء أغلب أوقاته في منزله .
 وبفضل ما منح  من جهده ووقته لأدبه ولما يتمتع به من موهبة غير عادية  صنع فلوبيرعبقريته الإبداعية في الأدب بالمثابرة والدءب والإصرار والعمل الجاد المتواصل رغم متاعبه الجسدية وظروف حياته
في الثامن من مايو 1880 رحل جوستاف فلوبير عن ثمانية وخمسين عاماً علي إثر نوبة قلبية  وهو  القائل أن الدموع للقلب هى كالماء للسمكة .

IMG 20230504 WA0013
 
 

زر الذهاب إلى الأعلى