القول الفصل في مسألة رد القرض عند تغير قيمة النقود 

 

بقلم ا.د : عطية لاشين أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر وعضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف

 

اختلف الفقهاء في مسألة رد القرض عند تغير قيمة النقود؛ هل يرد بالمثل أم بالقيمة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يجب رد القرض بمثله دون زيادة أو نقصان حتى وإن تغيرت قيمة النقود بمرور الزمان؛ وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في المذهب عندهم. [المبسوط للسرخسي(14/30) ، ط. دار المعرفة-بيروت-سنة1414هــ، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للحطاب (4/340) دار الفكر- الطبعة الثانية – سنة1412هــ، البيان للعمراني (5/466)، دار المنهاج-جدة- الطبعة الأولى سنة1421هـ، المغني لابن قدامة (4/244)].

post

جاء في المبسوط للسرخسي: “وَإِنْ اسْتَقْرَضَ دَانَقًا (سُدسُ الدرهم) فُلُوسًا، أَوْ نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ فَرَخُصَتْ، أَوْ غَلَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مِثْلُ عَدَدِ الَّذِي أَخَذَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالْقَبْضِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ”.[المبسوط للسرخسي (14/30)].

وجاء في مواهب الجليل: مَنْ أَقْرَضَ فُلُوسًا أَوْ بَاعَ بِهَا سِلْعَةً، ثُمَّ إنَّهُ بَطَلَ التَّعَامُلُ بِتِلْكَ الْفُلُوسِ وَصَارَ التَّعَامُلُ بِغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْفُلُوسُ مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً وَلَوْ رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ..” [مواهب الجليل للحطاب (4/340)].

وجاء في المجموع للنووي: “ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل، لأن مقتضى القرض رد المثل، ولهذا يقال الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل”. [المجموع للنووي التكملة الأولى للسبكي (13/174)].

وجاء في المغني لابن قدامة: “الْمُسْتَقْرِضَ يَرُدُّ الْمِثْلَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، سَوَاءٌ رَخُصَ سِعْرُهُ

أَوْ غَلَا، أَوْ كَانَ بِحَالِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا أَقْرَضَهُ مَوْجُودًا بِعَيْنِهِ، فَرَدَّهُ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ يَحْدُثُ فِيهِ، لَزِمَ قَبُولُهُ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ”.[المغني لابن قدامة (4/244)].

واستدلوا على ذلك بالسنة، والقياس، والمعقول:

أولًا: السنة:

ما ثبت عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».[صحيح البخاري، حديث رقم(2174)، كتاب البيوع، بَابُ بَيْعِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، صحيح مسلم، حديث رقم(1587)كتاب المساقاة، بَابُ الصَّرْفِ وَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَقْدًا].

وفي رواية أخرى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ».[صحيح مسلم، حديث رقم(1584)، كتاب المساقاة، بَابُ الصَّرْفِ وَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَقْدًا].

وجه الدلالة من الحديث الشريف: دلت هذه الروايات دلالة صريحة على أن التماثل المعتبر في الشريعة إنما هو التماثل في القدر، ولا عبرة في التفاوت في القيمة ما دامت الأموال ربوية. [شرح النووي على صحيح مسلم (11/10)، دار إحياء التراث العربي-بيروت- الطبعة الثانية، سنة1392هـ].

وعلى ذلك: فإذا كان المستقر في الذمة مثلًا مائة ألف، ودفع الطرف الملتزم للطرف الملتزَم له مائة وعشرين، فقد خالف المماثلة والمساواة في المعيَّن قدرًا وجنسًا، فالملتزم زاد، والملتزَم له استزاد، وبالتالي وقعا في الربا، كما حذر النبي-صلى الله عليه وسلم- من ذلك بقوله: “فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ».[أحكام الأوراق النقدية وتغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار: د/محمد تقي العثماني (1/172)، ضمن بحوث كتاب: قضايا فقهية معاصرة، طبعة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-قطر، موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار: الشيخ عبدالله سليمان المنيع (3/1837)، ضمن بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي].

ثانيًا: القياس:

القياس على السلم (عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطَى عاجلاً).

وذلك عن طريق قياس تغير قيمة النقود بالرُّخْص قبل القبض على رُخْص السلعة في السلم قبل تسليمها إلى المُسْلِم، فلو رَخُصَت السلعة في السَّلم قبل تسليمها إلى المسلم ليس له غيرها، فكذلك عند تغير قيمة النقود ليس للملتزم له إلا ما دفع.[نهاية المطلب في دراية المذهب (6/ 5) دار المنهاج – الطبعة: الأولى، 1428هـ- 2007م، المجموع شرح المهذب (9/282)، المغني لابن قدامة(4/244)].

ثالثًا: المعقول:

إن صفة ثمنية (مالية) الفلوس قائمة لا تنعدم بالرخص أو الغلاء، ولكن تتغير بتغير رغائب الناس فيها، وذلك غير معتبر، كما في البيع للحنطة وغيرها. [المبسوط للسرخسي (14/30)، المغني لابن قدامة (4/244)].

القول الثاني: يجب رد النقود بقيمتها من الذهب عند تغير قيمة النقود رخصًا أو غلاء عما كانت عليه، وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف في قوله الأخير، وهو المفتى به في المذهب، والحنابلة في رواية “.[حاشية ابن عابدين4/534، الطبعة الثانية، دار الفكر-بيروت- سنة1412هـــ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (5/127)، الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي].

والرجوع إلى القيمة النقدية للنقود يكون يوم إنشاء العقد وقبض المعقود عليه، أي تُقوَّم النقود الورقية يومئذٍ كم كانت تساوي من الذهب، ثم على أساسها يرجع الدين؛ وذلك لأن الذهب أكثر ثباتًا واستقرارًا، ولم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره، فلو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف، وكان هذا المبلغ يشتري وقت العقد مائة جرام من الذهب، فالواجب على هذا القول عند الرد الالتزام بالمبلغ الذي يشتري به هذا القدر من الذهب. [حاشية ابن عابدين4/534، تذبذب قيمة النقود الورقية وأثره على الحقوق والالتزامات على ضوء قواعد الفقه الإسلامي: د/علي القرة داغي (3/1687)، ضمن بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، سنة1417هـــ، العدد الخامس].

جاء في حاشية ابن عابدين: “حَاصِلُ مَا مَرَّ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمُفْتَى بِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَسَادِ وَالِانْقِطَاعِ وَالرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهَا يَوْمَ وَقَعَ الْبَيْعُ أَوْ الْقَرْضُ لَا مِثْلُهَا”.[حاشية ابن عابدين4/534].

وجاء في الإنصاف للمرداوي: “ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّ لَهُ رَدَّهُ، سَوَاءٌ رَخُصَ السِّعْرُ أَوْ غَلَا. وَهُوَ صَحِيحٌ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إذَا رَخُصَ السِّعْرُ”. [الإنصاف للمرداوي 5/127].

واستدلوا على ذلك بالكتاب، والسنة، والمعقول:

أولًا: الدليل من القرآن الكريم:

قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }. [سورة الحديد، من آية رقم:25].

وجه الدلالة: من المعلوم أن القسط معناه العدل، أي ليتعامل الناس بالعدل في كل شيء خاصة في معاملاتهم، والمبادئ العامة قاضية بشكل قاطع بتحقيق العدالة ورفع الظلم. [تفسير القرطبي (17/ 260)، طبعة دار الكتب المصرية – القاهرة- الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964م].

ومن ثم؛ فمن القسط أن يُرد إلى الدائن ماله حال تغير الأسعار غلاء ورخصًا بقيمته.

ثانيًا: الدليل من السنة:

ما ثبت عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا». [أخرجه مسلم في صحيحه، حديث رقم (1501)، كتاب الإيمان، بَابُ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ].

وجه الدلالة من الحديث الشريف: دل هذا الحديث على أن النبي-صلى الله عليه وسلم- ضمَّن مُعْتِق نصيبه في عبدٍ بينه وبين غيره بقيمته بلا نقص (وكس) ولا زيادة (شطط)، ولم يضمّنه نصيب الشريك بمثله، من باب العدل والإنصاف، والبعد عن الظلم والإجحاف. [شرح النووي على صحيح مسلم (11/138 وما بعدها)].

فعُلم من ذلك: أنه يجوز الرجوع إلى القيمة إذا تغيّرت قيمة النقود رخصًا وغلاءً.

ثالثًا: الدليل من المعقول:

أنه من باب العدل أن تُرد الأموال المقترضة بقيمتها حال تغير الأسعار غلاء ورخصًا؛ إذ فكيف يُسْمح بأن ترجع إلى الدائن نقوده بعد أن فقدت جزءًا كبيرًا من قيمتها بمثلها، حيث إذ ذلك يؤدي في كثير من الأحوال إلى الظلم بأصحاب الحقوق، فمن دفع قبل خمسة عشر عامًا مائة ألف، وردّها المدين إلى الدائن بالمثل، لأصاب الدائن خسارة كبيرة وضرر كبير لا يمكن أن يتفق مع هذه المبادئ السابقة. [موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار: الشيخ عبدالله سليمان المنيع (3/1835)].

القول الثالث: يجب رد النقود بقيمتها من الذهب عند تغير قيمة النقود تغيّرًا فاحشًا فقط، فإذا كان التغير يسيرًا فترد بمثلها، وهذا ما ذهب إليه الرهوني من المالكية.

قال الرهوني عند الحديث عن تغير النقود بالرخص أو الغلاء: “قلت: وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه”.[حاشية الرهوني على شرح الزرقاني(5/121)، المطبعة الأميرية-مصر-، الطبعة الأولى، سنة1306هــ].

واستدل على ذلك:

بما سبق من أدلة القول الثاني القائلين بوجوب رد القيمة، وحمل وجوب الرد على التغير الفاحش. [حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (5/121)].

القول المختار:

بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم، يتضح أن ما ذهب إليه القول الثاني القائل بوجوب رد النقود بقيمتها من الذهب مطلقًا عند تغير قيمة النقود رخصًا أو غلاء عما كانت عليه، هو الأولى بالقبول؛ لتحقيقه العدل والإنصاف بطريق مضبوط بعيد عن الاضطراب في تحديد التغير الفاحش واليسير، كما أن القول برد المثل فيه من الإجحاف ما فيه.

ولا يقال بأن رد المدين لقيمة النقود حينئذٍ من باب الربا المحرم؛ وذلك لأن الربا هو الزيادة على أصل رأس المال، ورد القيمة حينئذٍ يُعد هو أصل المال، فلا ربا.

كما أن القول برد المثل عند التغير الفاحش يجعل الناس تحجم عن الإقراض مع حاجة الناس؛ وذلك تحسبًا من تغير قيمة نقودهم، فكان القول برد قيمة النقود عند تغير قيمتها مطلقًا هو الأولى بالقبول.

زر الذهاب إلى الأعلى