د. سهام عبد الباقى محمد تكتب.. قيم المصريين من إنكسار النكسة إلى نصر أكتوبر

د. سهام عبد الباقى محمد

باحثة أنثروبولوجية-كلية الدراسات الأفريقية العليا-جامعة القاهرة

 

ونحن لا نزال نحتفل بذكري إنتصار حرب أكتوبر المجيدة الثامنه والأربعين،إنما نسترجع بطولات جيش وشعب دافع عن أرضه وعزته وكرامته حتى بلغ النصر ورفع رايته خفاقة على أرض سيناء الحبيبة لتروى عبر الأجيال قصة كفاح شعب مصر التى غيًرت تاريخ مصرنا الحديث بعد سنوات من المٌحاولة والكر والفر واجهت فيها مصر إسرائيل فى ثلاثة مواجهات عسكرية الأولى عام 1956، والثانية عام 1967بينما الثالثة والأخيرة كانت فى أكتوبر 1973م،وما بين النكسة والنصر واجه المجتمع المصرى العديد من التحديات، والأزمات التى أسهمت فى إحداث الكثير من التغيرات فى الشخصية المصرية، والقيم المٌجتمعية، وفى صناعة الفن والسينما المصرية التى كانت لا بد أن تواكب احتياجات الجماهير فى هذا الوقت لتحسن من حالته المزاجية.

 

post

فعلى الجانب النفسى خيم على المصريين حزن شديد بعد تلقى الجنود المصريين أومر قيادية بالإنسحاب من سيناء أبان نكسة 67 بعد أن إستولت إسرائيل على حدود سيناء حتى شرق قناة السويس،رغم ذلك ظلوا صامدين ،واثقين بربهم وبعدالة قضيتهم، مٌلتفين حول قيادتهم العسكرية مٌمثلة فى الرئيس”جمال عبد الناصر” الذى هامت به جموع الشعب المصرى حباً وإجلالاً.ورغم تسلل اليأس إلى بعض المصريين من النصر على أسرائيل، ورغم التخبط النفسى الكبير الذى أصابهم لم يستسلموا لأحزانهم فقاموا بإطلاق بعض الفكاهات، والنوادر عن النكسة من قبيل الترويح عن النفس،فالمصرى معروف بخفة ظلة حتى فى أشد واقصى لحظات حياته لذا يقال عنهم (شعب ابن نكته) أى يسخر ويضحك من أحزانه وأوجاعه.

 

 

كما تغيرت بعض الأدوار الإجتماعية وخاصة ما يٌطلق عليها”الجندرية” بظهور الفدائيات، ومشاركة النساء فى العديد من العمليات العسكرية،والمظاهرات المٌطالبة بتحرير الأرض، وإنخراط الكثير من المصريات فى منظمه الهلال الأحمر للتدريب على أعمال التمريض وتضميد جراح المٌصابين العسكريين والمدنيين اللذين إستهدفتهم هجمات إسرائيل أنذاك،كما حققت المرأة فى القبائل السيناوية العديد من البطولات تمثلت فى إخفاء أثر تحركات الجنود المصريين من خلال عمليات رعى الأغنام بعد أنتهاء العمليات العسكرية.وضربت لنا السيدة “فهيمة” أحدى نساء سيناء،أكبر أمثلة الفداء حين قامت بإخفاء أحد الجنود المصريين وصنعت له حفرة فى خيمتها وضعت له فيها ما يلزمه من مأكل ومشرب حتى لا ينكشف أمره.لذا منحها الرئيس السادات نوط الشجاعة من الطبقة الأولى لتكون أول سيدة يتم منحها هذا الوسام. وقامت السيدة “فرحانه” كذلك بدور استخباراتى خلف خطوط العدو فبرغم أميتها كانت تراقب القوات الإسرائيلية وترسم شكل أرقام ،وحروف الأهداف الإسرائيلية على الرمال حتى تحفظها ثم تمحو أثرها وتذهب للمخابرات الحربية وترسمها لهم،كما تطوع الكثير من النساء السيناويات كفدائيات فى منظمة سيناء العربية التى أنشأتها المٌخابرات رغم مخالفة تلك الأعمال للأعراف السيناوية المٌحافظة التى حصرت دور المرأة فى بعض الأدوار المنزلية إلى جانب ممارسة الرعى لتثبت لنا القبائل البدوية أنه فى حب الوطن لا سبيل إلى ثقافة التمييز بين الجنسيين.

 

 

وفيما يخص الجنود المصريين فقد تملكهم الشعور بالخجل والعجز أمام شعب علًق علية أمال وأحلام النصر الذى بات يراه وشيكًا مما أدى إلى التراجع النفسى لرجال القوات المسلحة،لتزعزع ثقة الشعب المصرى فيهم أنذاك،ولم يقف الإحتقان والتخبط أبان نكثة 67 إلى هذا الحد أنما إمتد للقيادة السياسية ليٌفاجىء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جموع الشعب المصرى بقراره بالتنحى إستشعار لمسؤليته عن الهزيمه كرئيس للبلاد حتى خرج المصريين بالشوارع يطالبونه بالعدول عن قرار التنحى فاستجاب لهم، بينما إستمرت إسرائيل فى شن هجماتها على المدنيين وإطلاق الغارات،.وأقامة المجازر بمدن القناة الإسماعيلية،العريش،وبور سعيد، وعلى قبائل سيناء لبث الفزع والخوف فى قلوب المصريين مما أثار غضب عارم فى كل فئات المجتمع حكومة وجيشًا وشعبًا،خاصة بعدما استشعرت إسرائيل نفوزها وقوتها العسكرية بعد النكسة.وقامت برفع العديد من الشعارات من أجل زعزعة ثقة الجيش المصرى فى إمكانياته العسكرية وقدراته الحربية وهز ثقة الشعب المصرى بجيشه.

 

 

وفى تلك الأثناء تغيرت خارطة الفن المصرى وأنتشرت الأفلام الكوميدية من أجل بث البهجه والسعادة إلى قلوب المصريين الحزينة، فبرزت على الساحة الفنية أفلام الكوميديا لأن القيادة السياسية لم تسمح بإنتاج أفلام عن النكسة مما أجبر المنتجين إلى التعبير عن الأوضاع السياسية بصورة رمزية،كالحديث عن الأرض والظلم والإستبداد من هذه الأفلام ما تم إعتباره علامات فى الساحة الفنية كأفلام الأرض،شىء من الخوف،قنديل أم هاشم الذى كان يعكس إتجاه بعض البٌسطاء من المصريين نحو الدروشة أو الإيمان المٌطلق بكرامات الأولياء بعيدًا عن الأخذ بالأسباب المادية.فكانت الحالة الفنية ممثلة فى صناعة السينما،والغناء إنعكاسا للقيم الجديدة والتغيرات التى أحدثتها النكسة بالمجتمع. فظهرت الأغانى الوطنية التى ألهبت حماس المصريين ليتربع على عرش الأغنية الوطنية الفنان “عبد الحليم حافظ”.

 

 

بعدما قام بخلغ بدلته الكلاسيك ليرتدى زي الجندى المحارب،لينقل المصريين بصوته الرخيم القوى الى ساحات القتال، كما فعلت كوكب الشرق السيدة “أم كلثوم”،ومن الشعراء الذين برزوا فى تلك الفترة الشاعر “عبد الرحمن الابنودى” بكلماته التى كانت كصوت طلقات المدافع وصيحات الجنود.ومثلما فرضت الهزيمة ثقافة الخذلان والتخبط فرضت ثقافة التخطيط لحرب أكتوبر ثقافة إيجابية إنعكست على الحياة اليومية والساحة الفنية بعدما سمح الرئيس”السادات” بعرض الأفلام التى تناولت النكسة كفيلم “أغنية على الممر” الذى دارت أحداثة عن مجموعة من الجنود المٌحاصرين في الجبهة.

 

وكان الفنانون يقومون بإقامة حفلات بالخارج والتبرع بإيردها لدعم الجيش المصرى وكانت كل الفئات الشعبية تقوم بدعم تسليح الجيش المصرى، وتضاعفت أعداد المتطوعين بالجيش المصرى،وأصبح الشعب المصرى قادر على الحديث عن هزيمته بل ويتغنى بها”وبلدنا عالترعه بتغسل شعرها جاها نهار مقدرش يدفع مهرها”، وينتظر نصر بات يراه يلوح بالأفق.

 

 

واستمر الجيش فى إعداد العدة والتخطيط للنصر حتى حققه لتعود لمصر مكانتها وعزتها وثقتها بقيادتها وبقواتها العسكرية التى ضحضت كل المزاعم حول قوة لا تٌقهر بارليف لا يٌعبر محته خراطيم مياة القناة ومحت معه الوجود الاسرائيلى بسيناء لتمتزج اغانى النصر بزغاريد المصريات فرحة بقدوم أبنائهم الجنود،وفرحة تلقيهم نبأ أستشهادهم فداء للوطن، ولتطوى مصر صفحة الحرب لتفتح صفحة البناء والاعمار والتشييد، وإقامة مشروعات كبرى بسيناء حتى تم إستردادها بالكامل وعودة الملاحة إليها ليثبت الشعب المصرى للعالم بأسرة أن مصر رغم كل التحديات والمحن تكتب الكلمة الأخيرة وتنشر ثقافة المحبة والسلام.

 

زر الذهاب إلى الأعلى