د.سحر السيد..تكتب..الحكم العثماني خلافة إسلامية أم غزو استعماري؟

في معظم البيوت العربية ستجدون أشخاصاً مسّهم طيف من الدراما التركية، وأحياناً نسمع من بعض الأصدقاء حوارات حفظوها من المسلسلات التركية تجعل السلاطين المؤسسين في مكانة العباقرة والحكام والفلاسفة، غير واعين بأن هذه الخلافة بدأت بالدم وبالدم استمرت، ولم تقدم إلى البشرية إنجازاً علمياً أو فكرياً واحداً، رسخّت الدراما التركية رواية محددة لفجر الدولة العثمانية، فمعظم المشاهدين العرب يتلقون المسلسل باعتباره تاريخاً وليس فنّاً يحمل رؤية صناعه.

فقبل عامين من غزو مصر قاد سليم الأول جيشاً لمحاربة المماليك، وكان حكم المماليك في أشد لحظاته ضعفا، فالمماليك الذين تصدوا للتتار والصليبيين، ضعفوا وانشغلوا بالجواري وجمع الأموال، والسلطان الغوري نفسه خرج للحرب وعمره 78 عاما، ولم يصمد فرسان المماليك أمام الأسلحة والمدافع العثمانية في معركة مرج دابق بحلب عام 1516، وهزم طومان باي في الريدانية قرب القاهرة بصحراء العباسية في يناير عام 1517 وأعدم طومان باي علي باب زويلة بعد القبض عليه، وبعدها دخل العثمانيين القاهرة بعد هزيمة المماليك، فنهبوا الغذاء والممتلكات وخطفوا الرهائن من البيوت والطرقات لمقايضتهم بالمال، وشهدت القاهرة ترويعا غير مسبوق، وتطايرت الرؤوس فصارت جثثهم مرمية على الطرقات فوق العشرة آلاف إنسان، فهل كان سليم الأول مضطراً إلى قتل عشرة آلاف مصري بعد الغزو؟ فمَن يستبيح الصعود إلى الكرسي على جثث إخوانه المسلمين، لن يتردد في ارتكاب ما يصنف الآن جريمة ضد الإنسانية فربما وجب التفرقة بين الدين والسياسة، فما اقترفه الفاتحون لا علاقة له بالدين الإسلامي، كما لا يُسأل الدين المسيحي عن الحروب الصليبية، حيث يقول ابن خلدون في مقدمته: “إن أقل الأقوام حضارةً أعظمها فتوحات”، ومن هذا التعميم يذهب إلى وصف الإمام محمد عبده لما سُمي بالفتوحات الإسلامية بأنها “أعمال سياسية حربية تتعلق بضرورات الملك ومقتضياته السياسية”، ولعل أخطر ما استحدثه محمد الفاتح وظيفة مفتي القسطنطينية، وأطلق عليه “شيخ الإسلام”، وصار الرجل الثالث بعد السلطان والصدر الأعظم، ومهمته تحليل جرائم السلطان، الذي كان يرى أن ابنه وارث العرش أيّاً كان يجب عليه أن يقتل إخوته من أجل مصلحة الإمبراطورية، وصار هذا قانوناً عثمانياً يستند إلى قرار شرعي، فالسلطان الفاتح هرب منه أخوه وأقام في روما وهناك لاحقه وقتله بالسمّ، فبهذا القانون قتل سليم الأول أخويه وأربعة من أبنائهما ووضع السمّ لأبيه بايزيد الثاني بقانون القتل، كما قتل سليمان القانوني ابنه مصطفى ولي العهد، وقاد جيشاً وهزم ابنه أبا اليزيد وذبحه هو وأولاده الخمسة، وبعد القانوني حكم ابنه سليم الثاني الذي مات مخموراً، وتكتمت زوجته خبره حتى يصل ابنها مراد الثالث إلى العاصمة، وأعدم مراد خمسة من إخوته غير الأشقاء ودفنوا مع أبيهم بموجب قانون القتل، وعندما جلس محمد الثالث على العرش دخل رئيس الأغوات إلى الحريم وأحضر تسعة عشر إخوة للسلطان الجديد، ورغم أنهم قبّلوا يديه إلا أنه أمر بخنقهم وبلغت القسوة بالسلطان أن انتزع طفلاً من ثدي أمّه وخرج لبن الأم من أنفه لحظة خروج الروح.

خلافة إسلامية أم غزو عثماني بقيت ولا تزال مسألة القرون الأربعة لحكم الدولة العثمانية لأغلب الدول العربية، محل جدل ومسار خلاف بين المؤرخين، عما إذا كان يمكن اعتبارها خلافة عثمانية أم غزواً واحتلالاً، فالعثمانيين مثلهم مثل الاستعمار الفرنسي والبريطاني ليسوا سوى غزاة ومستعمرين احتلوا بلاد العرب لمدة أربعة قرون، واستنزفوا ثروات العرب وأورثوهم الضعف والتخلف، إذ لا يمكن اعتبار دخول شعب مسلم لأرض شعب مسلم آخر فتحاً فهذا مناف للعلم والتاريخ، ومن يتحدث عن الفتح العثماني فإن حديثه قائم على العاطفة والحماسة الدينية بحجة أن الدولة العثمانية حمت الدول العربية من التغلغل الشيعي، عبر تصديها للدولة الصفوية في إيران، حيث أن السلطان العثماني كان إمبراطوراً استعمارياً والبلاد العربية في عهده عانت التبعية لمركز استعماري، ولم تشهد أي معالم نهضة أو حضارة،  فالخلافة الإسلامية بالأساس مركزها مكة المكرمة، ولهذا كان الخلفاء الراشدون من قريش والأمويين والعباسيين، وكمثال على إبعاد صفة الخلافة فإن صلاح الدين عندما قضى على الخلافة الفاطمية لم يسم نفسه الخليفة وإنما سُمي بالسلطان لأنه كان كُردياً، ورغم ترديد البعض مصطلح الخلافة العثمانية، فإن المراجع التركية ذاتها لا تذكر لقب الخليفة العثماني، والوحيد من السلاطين العثمانيين الذي ربط اسمه بلقب الخليفة وادعى الخلافة كان السلطان عبد الحميد، حين أصدر في عام 1876 دستوراً باسم عبد الحميد خليفة المسلمين، وتصدى له عبد الرحمن الكواكبي في كتاب (طبائع الاستبداد) وذكّره أن الخلافة عربية، ويؤكد محمد صبري المؤرخ وأستاذ التاريخ المصري أن احتلال العثمانيين للمنطقة العربية وغزوهم دولها ليس محل وجهات نظر بل هو حقيقة، وفكرة الخلافة لم تكن تطرح في الإمبراطورية العثمانية إلا في أوقات محددة ومتأخرة من عمرها، عندما اصطدم العثمانيون مع الفرس والروس وغيرهما ولم تكن تُطرح أبداً فكرة الخلافة، وبعض أتباعهم طرحها فقط مع غزوهم للدول العربية لإضافة بعدٍ ديني إلى الأمر، وباختصار هي دولة احتلت دولة أخرى كانت قائمة، ويقول ابن خلدون حين تحدث للسلطان المملوكي برقوق في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي مردداً عبارته الشهيرة، “لا تخشوا على ملك مصر إلا من أولاد عثمان” في إشارة إلى مؤسس الدولة العثمانية .

زر الذهاب إلى الأعلى