أ.د / أمنية السعيد.تكتب.. الصمت أبلغ العمليات التواصلية واللغوية

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن الصمت من أبلغ العمليات التواصلية؛ وهو من أبلغ العمليات اللغوية !!

ففي عالم الرياضيات والحوسبة للصفر مكانة كبيرة؛ بل تتم عمليات التشفير التواصلية من خلال ما يسمى (Binary Number) تلك التي تعتمد على الصفر والواحد فقط بأشكال مختلفة، فتقوم بتشفير الحروف والكلمات والأرقام الأخرى، لتتحول إلى موجات إلكترومغناطيسية في المحادثات الهاتفية؛ وشفرات تتعامل معها الأجهزة الحاسوبية معاملات خوارزمية معينة لتنتج ذلك الكم الهائل من الكلمات، والجمل، والرسائل، والعمليات الحسابية البسيطة والمعقدة.

ولا تتوقف العمليات الصفرية في حياتنا على الحوسبة فقط؛ فالنوم عملية صفرية يخلد فيه الجسد والعقل البشري للراحة والسكون، حيث تحسين الذاكرة وحرق الدهون وإنقاص الوزن، وتنظيم ضغط الدم، وتقوية المناعة؛ وغيرها.

وفي حياة البشر العامة كثير من اللغات التواصلية غير المنطوقة مثل اللافتات المرورية والتجارية المكتوبة والضوئية، وغيرهم.

post

ولقد عزز الحكماء والشعراء أدب الصمت أو سلوك الصمت؛ بل أعطوه من الرهبة والهيبة والجلال ما جعله من السلوكيات المحببة التي جعلتهم يوصون بها في أقوالهم فعند جورج برنارد شو: الصمت يمنحك متعة التنزه في عقول الآخرين، وعند المنفلوطي: أول العلم الصمت، والثاني حسن الاستماع، والثالث حفظه، والرابع العمل به، والخامس نشره؛ ولفت ابن السّكّيت الانتباه إلى أن اللسان يورد المهالك فقال :
يموتُ الفتى من عثرةٍ بلسانهِ … وليسَ يموتُ المرءُ من عثرةِ الرجلِ
فعثرتُه بالقولِ تذهبُ رأسَه … وعثرتُه بالرجلِ تبرا على مهلِ

ومن العجيب أن الصمت في المعاملات اللغوية قد يعني القبول، وقد يعني الرفض، وقد يعني الضجر، وقد يعني السرور؛ كما أنه في غير الحاجة إليه علامة على الكبر والغرور !!

وهو في عمومه من السلوكيات التي يتحلى بها المحبوب فقد مدح الشعراء ذلك فقالوا:
صَمتُ الحبيبِ عن الكلامِ يُهابُ … والصمتُ في لغةِ الهوى إعرابُ
مَن كان يسأل عن محاسنِ وجهِهِ … فجمالُهُ للسائلينَ جوابُ
فالصمت سلوك محير يجعل من يتعامل معك ينشغل بك وبأمرك، فالإفصاح يقطع طرق الاحتمالات.

ولقد عبر القرآن الكريم عن ذلك الأدب الرفيع بالصوم فقد كان عبادة الأمم السابقة؛ وهو ما أوحى به الخالق عز وجل للسيدة مريم العذراء رضي الله عنها حينما أتت قومها بكلمة الله سيدنا عيسى عليه السلام حيث قال عز وجل في محكم آياته : {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم 26)
وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله واليوم الآخر بقول الخير أو الصمت :” فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.

والصمت فرصة للتعرف على ذاتك، على مناقشة ما يحدث بداخلك وحولك بينك وبين نفسك فقط، هو تهيئة نفسك لاتباع ما يوحى إليك، لأن الكون مليء بالإشارات الموجهة لك لأيسر سبل التعايش مع هذه الحياة؛ لكننا نعمد إلى تشويش ذلك التواصل الرباني والفطري والتلقائي بكثرة النجوى التي وصفها الخالق سبحانه بأنها من الشيطان قال تعالى : {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة 10)

زر الذهاب إلى الأعلى