المثنوي كتاب العشق والسلام

مصطفى رشوان


في البدء يرى الصوفي صورته كما يعكسها كلام الله، ثم يصبح مرآة تنعكس فيها معاني كلام الله العميقة بعد إختلاطها بلحمه ودمه، لذلك تراهم -الصوفية- دائماً هائمون بأرواحهم في عالم الملكوت، فإذا نطقوا تكلمت الحكمة بلسان وصوت، تلك الحكمة التي نفتقدها اليوم، العشق_السلام_المحبة_التجلي، كل هذه الصفات وأكثر تملأ روح الصوفي وتنعكس معانيها على أفعاله وكتاباته، عندما يكتب ترى كلماته كأنها قبسٌ من نور سماوي، صفحة نهرٍ ساكن تنظر فيها ترى وجهك بكامل تفاصيله الدقيقة.

يقول بن عربي:”كل آية مُنزَّلة لها وجهان عند أصحاب الإشارات: وجهٌ يرونه في أنفسهم، ووجهٌ يرونه في ما خرج منهم”.

ويقصد بن عربي بالوجه الأول (الشريعة) والثاني (الحقيقة)، لذلك تعدُّ كتابات الصوفية، من أبدع وأبلغ الكلمات، حروفٌ حيَّة تُنْطَق بسلاسة وفصاحة بالغين، تكاد تجزم وأنت تقرأها أنها تداعب بنسماتها شجون روحك، وتحلق بك في سماوات بعيدة.

الكتاب الذي بين أيدينا هو لواحدٌ من أعظم الصوفيين في تاريخ التصوف، بل في تاريخ الإنسانية.. جلال الدين الرومي أو كما يُطلق عليه (مولانا) أو (سيد العاشقين) سننفرد فيما بعد بمقال عنه من هو؟ وكيف أصبح ما أصبح عليه، رجل دين وشاعر وعالم ومفكر إسلامي؟.

post

هذا الرجل الرجل أثرى بأفكاره وأشعاره وكلماته الوسعة تاريخاً كاملاً من الإنسانية، وأصبحت تتناقل كلماته مختلف الأزمنة بعده ولا تفرق بين عربي أو أعجمي، بل انتشرت في أرجاء العالم، كأنها رسالة لنبذ كل ماهو متطرف

 

“إني أتسائل من بين الآف الأنا، أيُّ واحدٍ منهم أنا، إنك تبحث في العالم عن الكنز، لكن الكنز الحقيقي هو أنت”

 

“إن كنت عاشقاً نركض من حولك، مصعوقين كأننا الموتى”

 

هذه الكلمات وأكثر هي لجلال الدين الرومي مؤلف كتابنا المثنوي، بعد لقاءه برفيق روحه شمس الدين التبريزي ودخولهم في رحلة الروح والتآخي في خلوة دامت أربعين يوماً للذكر والعبادة، خرج الرومي يرى العالم بعيون أخرى، أثارت تلك الرؤى بداخله الكثير من الأفكار والأطروحات التي عبَّر عنها بروح الإنسان الأول، فألَّف المثنوي محاولةً منه لتوثيق رسالة إنسانية غير مقتصرة على دين أو شكل أو لغة. وسُميَّ الكتاب بذلك الإسم لطريقة كتابته (الإزدواج)، والإزدواج شكلٌ عروضي في الشعر وهو تراص بيتين من الشعر وكل بيتٍ يحتوي على شطرين وهما أربع أبيات منقسمين مفصولين لما بعدهم أو قبلهم، وهذا الشكل العروضي يعطي مساحة واسعة في حركة اللغة والتعبير، اختار الرومي هذا الإسلوب لشعوره الداخلي واهتمامه بعميق الكلمات، لذلك هذا النوع يعطيه مساحة أكبر للتعبير بمطلق الحرية.

 

“إنني أفكر في القافية وحبيبي يقول لا تفكر في شىء سواي.. مُسْتَفعِلٌ.. مستفعل.. مستفعل قتلتني..”

 

الكتاب ينقسم إلى ستة أجزاء على ٢٦ ألف بيت، جاءت حسبما يصف الرومي كتاب المثنوي، أن الكتاب يحوي بين طياته أصول أصول الأصول في الإعتقاد والصورة الذهنية للمنطقة العليا الإنسانية، وصورة الإنسان المفرد بحقيقة الوجود حوله وإدراك معنى الحب بل ومعنى المعنى في الحب، وهي من وجهة نظر الرومي، الإنسانية لأنها أعلى من كل شىء فهي تحكم الفطرة التي خُلقت من أجلها.

وأرى أن ماشغل الرومي أيضاً، محاولته في توثيق رسالة للعالمين من بعده، مفادها أن الإنسان يجب أن يبحث بداخل نفسه عن حقيقته المجردة ويتلمس جوهر ذاته، وليس الأخذ بالمظهر والشكل. الكتاب يأخذك إلى عالم بعيد من الصفاء، يجب ان تقرأه أكثر من مرة، لأنك ستكتشف كل مرة جديد، اقبل على المثنوي وافتح الكتاب بتخلي عن ما هو قيد شكلي للروح، حتى تشعر بحلاوة الكلمات لتأخذك في رحلة تجليك إلى عالم الإنسانية الحقيقي.

 

“ولتحطم القيد ولتكن حراً يابني

فلمتى تظل عبداً للفضة والذهب”

 

“فإن مضت الأيام فقل لها إذهبي ولا خوف

ولتبقَ أنت يا من لا مثيل له في الطُهر”

 

“أتدري لماذا لا تنبىء مرآتك

ذلك لأن الصدأ لم يُجْلَ عنها”

 

“ومن الأدب صار هذا الفلك مليئاً بالنور

ومن الأدب يكون العبد عصوماً طاهراً”

 

“أي ضرر يصيبك مادامت روحك غرقت في بحر النور”…

زر الذهاب إلى الأعلى