( لاجئ في بلادي )

شعر إبراهيم ياسين

نحو المجهول تعدو غربتي

بين البلاد تهيم ولا مرسى

لا يد تحنو و تمسح رأسها

السماء سوداء و الندى عالق في الهواء

post

و النسيم في كل البلاد تجمد

 

ليس سوى مخيم اللاجئين يا غربتي

يضئ من بعيد ملوحاً باسماً ن

حو المخيم رحت باحثاً

عن الوطن بين أشلائه

 

لم أحس يوماً غربة بينهم

فحقاً أنا مثلهم لاجئ في بلادي

اختليت بنفسي تحدثني و أحادثها

أيتها الرياح احملي بذور الورود الجبلية

وانثريها في بلادٍ لي بها حبيبة

أيتها السّحابة احملي دموعى

واروي بذوراً نثرتها الرياح

يا نسمة الربيع احملي همسي على جناح فراشة

واعجنيه بأريج الورود الجبلية

و ألقي على مسامع حبيبتي همسي

وعطّري ملابسها بأريج الورود الجبلية

واعزفي لحناً شجياً على أوتار شعرها الليلي

وذكريها بأيام منسيّة و أحلام مذبوحة

 

في بلادٍ لي بها حبيبة

 

يا طيوراً مهاجرة لبلادٍ ودّعتها

طوفي بكل مكان واجمعي لي ذكرى

يا أشعة الشّمس المشرقة طوّقي حبيبتي

في الصباح الذهبي النادي

وامنحيني دفئها مع الشمس الغاربة

في بلادٍ لي بها حبيبة

يا لَتعاستي أشتاق لبلادي و ترابها عالق بردائي

أليست الغربة بُعْدَ المسافاتِ؟

الغريب سيعود يوماً و يقتل المسافات

أما غربتي أنا قاتلتي

فما أصعب البعد و نحن جوار

لا تسأليني عن السبب فما كنت يوماً هكذا

أجوبتي لن تشفي جراحي

فصرخات غربتي أعلى

 

فاستفزت صرخات غربتي ثلاثة

بيني و بينهم رباط ممزق

افترق الثلاثة بحثاً عن خلوة

لمّا انفجرت عواطفهم الخامدة

 

فتتبعت أولهم

سمعته يناجي طائراً مهاجراً

ودموعه تسبق مناجاته

يا مهاجراً لدمشق العريقة

اقطف لي من أشجار التفاح ثمرة

واعصرها في قلبي الظمآن

و يا نسيم سوريا

احمل إلينا رحيق جناتك

وصمت وصوت الصمت أعلى من مناجاته

 

و تتبعت ثانيهم

سمعته يناجي طائراً مهاجراً

و صوته كطائر عالق بين الأغصان

حلق بجناحيك نل شرفاً ووساماً رفيعاً

وامشِ في بلادٍ ولد فيها المسيح

و اقطف لي برتقالاً دموياً بلون جراحي

وزيتوناً أرجوانياً بلون جلدي

و يا نسيم يافا و حيفا هز أجراس الكنائس العتيقة

وجفّف عيون الأقصى الحزينة

 

ولم أتتبع ثالثهم

فصوته أسمعَ كل آذان المخيم

وقف يصرخ في طائرٍ مهاجرٍ

قف على أعلى قمم النخيل ببغداد

وأخبر العالم أننا يوماً سنعود

يا دُرّة المدائن لا تحزني

يوماً سننفض عنكِ الغبار

و اغمس منقارك في الفرات

واملأ فاهك بالماء العذب

و تعال اروي فؤادي الظمآن

 

أما أطفال مخيمنا ليسوا كسائر الأطفال

فلا طفل يبكي لكسر لعبته

فلا محال هنا لبيع اللعب

كل طفلٍ صانع لعبته

إن ضاعت أو كُسرت –

وكم من أشياء ضاعت وكم من أشياء كُسرت –

لن يبكي حتماً سيصنع أخرى

لا طفل يبكي من أجل قطعة حلوى

مرّر الضّياع حلاوة السكر

لا طفل هنا تسيل دموعه لأن والدته ذاهبة لجارتهم

لا طفل هنا يغضب ويهرع لحجرته

لا طفلة هنا تبكي لأن أختها أخذت عروستها

فلا عرائس هنا ولا دببة يحتضنونها في أسرتهن

لا طفلة هنا تبكي من أجل فستان أعجبها

 

أطفال مخيمنا مشتاقون لبلادهم

إلى حضن بيت دافئ في شتاء قارس

إلى نسمات الهواء في صيف حار

إلى المرح بين حقول الربيع

إلى الركض على الأوراق اليابسة في الخريف

إلى اللهو في الحارة المنسيّة

إلى اللعب مع أطفال الجيران

إلى الركض في فناء المدرسة

 

يحلمون بالعودة إلى الطفولة

أن يشرقوا كشمس الصباح

 

يغني أطفالنا نشيدهم

 

أصواتنا تتحطم على أسوار مخيمنا

أجنحتنا منكسرة فلا تحملنا لبلادنا

أحلامنا مسجونة داخل أسوار عقولنا

آلامنا لا توجع سوى أجسادنا

صرخاتنا عالية و غير مسموعة نداءاتنا

 

ولكن ……

مازال أطفالنا ينبضون بالأحلام

أحلامهم لا تموت في أحضان آمالهم

فطفل يرصد النجوم ويحلم بالسفر للقمر

و طفلة تصمم فساتين على الورق

طفل يخترع لعبة جديدة

وطفلة ترسم لوحة لبيتها القديم

طفل يروي حكايات حارتهم

وطفلة تساعد العجائز

 

وقف أطفال مخيمنا يحدقون إلى السماء

يرسمون أحلامهم على صفحاتها المتعددة الألوان

يأملون تحقيقها بين المخيم و الدمار

 

و يا للعجب

 

أطفال مخيمنا يعشقون تراثهم

ينصتون لسماع تاريخهم

بفخر و عزة يحملون تقاليدهم

أطفالنا أكثر انتماءً ممن هم في أحضان أوطانهم

 

بنوا في قلوبهم وطناً

وقالوا … قولوا لنا

كيف إن اغتصبتم ديارنا

فكيف إذاً تغتصبون قلوبنا

فيا من سلبتم ديارنا

أردتم مصيراً لنا لن تبلغوه أبداً

أوطاننا أبد الآبدين في قلوبنا

لسنا وحدنا ها هنا لاجئون

فكم من لاجئ في بلاده يسكن

أبداً لن تفيض دموعنا يأساً

فيوماً ما سنعود لديارنا

اسألوا التاريخ يخبركم

أن لا ليل يدوم سنعود حاملين الفجر

نزرع في أراضينا بساتين

تحتوي من كل أرض لنا ثمرة

ستنمو في سلام أشجارها

سنشهد ميلاد الشمس فجراً

سنستمع إلى عزف العصافير

لأنشودة السلام الأبدية

 

سنقطف التين و الزيتون من شعر درويش

سنعصر العنب و التفاح من شعر نزار

سنحاور حمار الحكيم و نتنزه في بساتيننا

سنعزف الناي على أشعار جبران

 

سنعود يوماً إلى طفولة فقدناها على عجل

نتسلق أشجار التوت و التفاح

نداعب الأسماك في الترع الصافية

نسند ظهورنا إلى أشجار الصنوبر و اللوز

نتتبع الأسماك الهاربة من الترع الصافية

إلى الحقول الخضراء و القنوات

نبني سدوداً و نصطاد أسماكاً

و نُطلقها في الحياة مرة أخرى

 

سننتظر كل مساء نراقب القمر و النجوم

نرصد عش اليمام على أشجار الكافور

نتتبعه في الزوايا البعيدة و الأطلال

نتسلل خفية بين الأغصان

نَعُدّ بيض العصافير و اليمام

ولن نحبس يوماً جناحاً و نحطم أحلامه

فربما بقي طول العمر منكسراً

و ربما رحلنا و مات جوعاً

 

وسنلعب على شطآن البحار

نفوز بالنجوم والمحار

نبني قصوراً رملية

ننحت أسماءنا في جدرانها

نبني حواجز فلا أمواج تهدمها

 

وسنهرب في القيلولة من أسرتنا

نسير على الجسور الضيقة بين الحقول الخضراء

نجوب طرقاً بين البلدان

 

وسنقطف أغصان الصفصاف

نعتمر منها تيجاناً فكلنا في بلادنا ملوكاً

 

وسنقرأ روايات محفوظ

نسهر في قاهرة المعز

 

وسنصنع مراكب ورقية

تجري من المحيط إلى الخليج

 

ولن نفزع من صوت الطائرات ثانية

سنرفع رؤوسنا، لسنا خائفين

 

وسنبني في قلوبنا وطناً

إن الأشباح اغتصبوا أراضينا

فليقولوا لنا كيف سيغتصبون قلوبنا

 

زر الذهاب إلى الأعلى