عبدالرحمن موسى..يكتب..ضوابط الفضفضة

 

منذ فترةٍ قريبة اتصل بي أحد الأصدقاء، وكانت له أخت متزوجة، تجمعني بهما وبزوجها علاقة طيبةٌ وقوية، فطلبت هي من أخيها أن تراني ذات يوم لتتحدث معي في أمرٍ ما، فلبيت رغبتها، وما أن جلسنا أنا وهي وأخيها، حتى غلبتها دموعها، وأفصحت عما بداخلها.

 

تقول علاقتي بزوجي كانت على ما يرام، فنحن عروسان في بداية حياتنا الزوجية، وهو شخصٌ تتوافر فيه جُل الصفات الحسنة، لكنه كثير الغياب عني بحكم عمله فهو يعمل (طبيباً) إلا أنه في الآونة الأخيرة بدت تطرأ بعض التغيرات على أحواله، وصار يجلس شاردًا معظم الوقت منشغلاً بهاتفه، فغلبها الفضول وفتشت فى رسائله، فوجدت رسائل من سيدة بها بعض كلمات الغزل، وهو بدوره يبادلها نفس الأسلوب، فعندما واجهته بالأمر أنكر واختلق قصصاً غير مفهومة، ومرت هذه القصة مرور الكرام، ولكنها بدأت تلاحظ أنه يتلقى العديد من المكالمات الخاطفة، وغالباً ما ينهى المكالمة إذا ظهرتُ في خلوته وقت انفراده بنفسه، وكثُرت ادعاءاته أن لديه مواعيد وارتباطات أخرى.

 

post

قلت لها: أولاً هوّني على نفسك فالأمر قد يكون غير ما تظنيه، وخلاف ما تفهميه، فهذه الأحداث بهذه المسميات والنعوت منتشرةً وواردةً في كل البيوت، وإن كنتُ أرى (سامحيني) أنكِ أخطأت جملةً وتفصيلاً في كثيرٍ من الأمور كـ ( العبث بهاتفه، وقراءة رسائله، وتكذيب كلامه، والتشكيك في ضميره، واختلاق المشكلات، وزرع المنغّصات) لكن الخير يكمن في الشر، فاسمحي لي أنا أحادثهُ في الأمر، لعلّ الله يخرج لنا من رحم الضيق فرَجاً.

قالت لي والله ما حادثتك إلا لقُربكَ منّا جميعاً، ولمعرفتي التامة بصفاء نيتك، وحُسن حديثك، وتخصص عملك في التنمية البشرية.

ثم انصرفتُ من عندهما مودعاً إياهما.

 

وفي عصر اليوم التالي، وجدتُ زوجها قد فتح هاتفه، تواصلت معه، وأعطيته نبذة بسيطةً عن الموضوع، وقلت له إذا أردت أن نجلس سوياً فقط لا مانع، وإن أردت أن نجلس جميعاً فالأمر لك فانظر ماذا ترى قال ممازحاً بل نجلس جميعاً (وهعشيكم سمك على حسابي)

قلت له ضاحكاً (هذه رشوة لا أقبلها) فقال إذاً (اجلس جنبنا و شم ريحة السمك) هههه.

 

ثم حددت موعداً مع أخيها في بيته، على أن يدعو أخته للموعد، واجتمعنا جميعاً كعادتنا أحياناً، وتناولنا العشاء، ثم قال الرجل لزوجته هاتِ ما عندكِ يا قلبي، فبدأت زوجته بالثناء عليه، ثم أوضحت له ما قالته لنا سابقاً بالتفصيل الذي قد يغيب عن كثيرٍ منّا معشر الرجال.

وبعد أن انتهت من حديثها، تحدث زوجها، وحدث ما لم يُتوقّع حدوثه.

يقول زوجها أُشهد الله أن زوجتي قرة عيني وصديقة عمري ونبض فؤادي وبلسم جراحي فهي النقية التقية، الجميلة في مظهرها، والطاهرة في مضمرها،

غير أن لها عيباً واحداً رأيته منها، وهي أنها تكثر الحديث في كثيرٍ من أمور حياتنا مع أخواتي وأخواتها، لكن أمَا وقد ملأ الشك قلبها والفكر عقلها، فإني استخرت ربي فيما سأقوله وأسأل الله المغفرة، وأناشدكم الكتمان.

والدتي شفاها الله وأتم عليها الصحة والعافية تعاني من القلب منذ خمسة عشر عاماً، ووالدي كما تعلمون توفى منذ عامين تقريباً، وقبل أن يموت أسرَّ لي بسرٍ أثقل كاهلي، فلقد تزوج من امرأةٍ أخرى قبل وفاته بخمس سنوات، وأنجب منها فتاة، وعند الاحتضار قال لي يا بني إن والدتك مريضة، منذ خمسة عشر عاماً، لم أقرب منها كما يقرب الرجل زوجته، فابتعدت عني، وأهملت نفسها، فكانت لي بمثابة الأخت لا الزوجة.

فتزوجت عليها، وما قصّرتُ معها، فاحفظ عني سري كي لا تتأثر أمك، أو يصيبها مكروهٌ حتى يقبضها الله ويأخذ أمانته.

وهذه السيدة التي رأت زوجتي رسائلها هي (زوجة أبي ومعها أختي الصغرى )

ووالله إني أقوم على رعايتهما بأكمل وجه، وكل يوم أذهب بأختي إلى الحضانة، وفي موعد خروجها أذهب لإحضارها، فليس لهما عائلٌ بعد الله سواي.

ثم أخرج من جيبه وثيقة زواج أبيه، وشهادة ميلاد أخته الصغرى.

ثم غلبته دموعه فبكي، وقال والله ما خبَّأت ذلك عن زوجتي إلا وفاءً لسر أبي، وخوفي على والدتي من ذلة لسان زوجتي بدون قصدٍ أمام أخواتي تصريحاً أو تلميحاً، فينكشف سِرّ أبي وتُصاب أمي بمكروه.

ثم ساد الصمت المكان حتى غلبتنا جميعاً دموعنا، ثم قامت زوجته إليه وقبّلت رأسه، وهمّت بتقبيل قدمه، فأمسكها وعانقها وقال لها آسفٌ لما جعلتُك تشعرين به، وتفكرين فيه.

وقالت هي له سامحني (حقك عليّ، وجزمتك فوق راسي، أنا غلطانه والشيطان لعب في راسي وملأ عقلي وساوس وهلاوس)

 

** العبرة بالقصة **

أولاً:

مما لا شك فيه أن أعظم الطرق أثراً، وأشهرها خبراً، وأقلها ضرراً، وأضمنها نتيجةً، وأعلاها وشيجةً، وأيسرها عملاً، وأبلغها أملاً

هو الإفضاء النفسي مع الرحيم العليّ.

فرسولنا صلوات ربي عليه كان إذا حزبه أمر فزع للصلاة وغبَّرَ جبهته لله شاكياً إليه الهم وطالباً منه العون.

ثانياً:

قد تكون الكتابة أحياناً أحد الوسائل للتنفيس عن المشاعر السلبية، والحلول العصيّة، فكثيراً ما تخفف الأحمال، وتساعـد على الاندمال، وتمحي الكدّر، وتفتح النظر، وتدفع الشرور، وتوضّح الأمور.

ولكننا كبشر نحتاج دائماً إلى أذن تسمعنا، ولسان يرشدنا، وهذا ما فعله المصطفى المختار حينما اشتد عليه الأمر في الغار فأباح بسره، وأفضى بهمه لأمنا السيدة خديجة رضي الله عنها.

وفعل ذلك أيضاً مع أمنا السيدة أم سلمة رضي الله عنها حينما اعترض الصحابة على وثيقة الحديبية، ولم يمتثلوا لأوامر رسول الله أن (ينحروا ويحلقوا) فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمه فأفضى لها همّه، وذكر لها ما حدث فقالت رضي الله عنها:

يا نبي الله اخرج ولا تكلم أحداً حتى تنحر ذبيحتك وتحلق رأسك، فخرج رسول الله وفعل بمشورتها فما كان من المسلمين إلا أن نحروا وحلق بعضهم لبعض، وبذلك حلت المشكلة.

ثالثاً: لا أحد منا خالٍ من المشاكل أو غير مثقل بأعباء الحياة، فكلٌ منا له سقطات، ونزوات، ومنعطفات، ويمر بمراحل ضعف تجبره على أن يستنجد بغيره.

لكن تظل عشوائيةً انتقاء المفتض إليه (المفضفض له) هي نقطة الخلاف، وعائق الائتلاف وهي محور موضوعي

فأساسها هي اللجوء إلى إنسان ثقة ذي حكمة ونظر، مأمون من الخطر، تبث له الآلام، فيثريك من تجارب الأيام، وتنشرُ له الآمال، فيحقق لك الأحلام، فلا تبقى حبيسًا لغوائل أيامك وعاديات لياليك، لا صديقًا تشتكى له، ولا صدرًا حنونًا تختبئ فيه، فتتراكم الهموم، وتتشابك الأحزان، فتضحي كالرواسي الجاثمة على صدرك، والسوس الناخر في عقلك.

فإذا ما فقدتَ من الطرف الآخر الحكمة والأمانة كانت النتيجة غماً وخيانة، أو شكّاً وندامة.

ففي حياتنا أشياء لا تحتمل أن نجازف بها أو نجعلها محلًا لتجاربنا، فخضوعها للتجربة قد يجعل ثمن الدرس فيه باهظًا، فينتابك أنين النفس، وتأنيب الضمير، من سوء تقديرك لاختيار من تمنحه ثقتك.

والفضفضة قد تؤدي أحياناً إلا ما لا يحمد عقباه، وقد تهدم بيتاً، أو تفسد عقلاً، أو تمحو حباً، أو تزرع شكاً.

ولذلك فلا بدّ لها من شروطٍ خمس:

1- أن تكون بغرض طلب الحل والمشورة، لا بغرض كشف الستر والعورة.

2- أن تكون الفضفضة لأهلٌ للثقة، المؤتمنين على القيل والقال.

3- ألا تكون لمتقلب الحال يومٌ معك ويومٌ عليك.

4- أن تكون مع من تشعر في كلماتهم بالراحة، وفي عقولهم بالرجاحة.

5- أن تعمَّم الحديث، لا تتحدث في أدق التفاصيل، إلا في أضيق الحدود.

فانتقوا أحبّاؤكم بعناية، وإياكم وكثرة الفضفضة فالقلوب متقلبة، والأيام دوَل.

أسأل الله لي ولكم الستر والأمان والسكينـة والاطمئنان

زر الذهاب إلى الأعلى