سارة .. بقلم علي عبد الناصر

سارة .. بقلم علي عبد الناصر

وقف الأب في شرفة بيته قبيل الفجر يناجي ربه :
يا ربي لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت .. يا ربي اشف ابنتي الوحيدة فإني لا اقوى على فراقها ولاأتحمل آلامها .. أنت الذي منحتني هذه النسمة ، وأودعت قلبي هذه الرحمة .. اللهم إني اسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، ألا تحرمني ابنتي وأن تشفيها شفاء لا يغادر سقما.. يا رب إن كان سبق في علمك أنها ستفارقني فأفرغ علي صبرا وثبتني يااارب .. أؤمن بأنك الله الرحيم الودود وأنت أرحم بها مني ..

تذكر الأب هذا الدعاء يوم أن مالت ابنته عليه وطبعت قبلة حانية على وجهه .. ومسحت دموعه التي سالت على خديه بيديها الصغيرتين الرقيقتين وكأنها تقول له : لا تحزن ، موعدنا الجنة بإذن الله .. ثم نظرت إليه نظرة المودع ومالت رأسها بين يديه .. وصعدت الروح إلى بارئها .. وضع رأسه بين كفيه وانهمرت دموعه ولم يفق إلا على يد حانية صابرة تربت على كتفيه : لله ما أعطى وله ما أخذ .. وديعة استردها .. فقال وقد اغرورقت عيناه بالدموع : ” إنا لله وإنا إليه راجعون ”

سارة .. ابنة السنوات الستة رُزق بها أحمد وزوجته أمينة فكانت ملاكا طاهرا بريئا هبط من الجنان ليعانق حياة هذين الزوجين ويشاركهما أجمل لحظات العمر .. تضحك فيضحك الكون لضحكتها .. تخطو في مرح فتزهر الأرض تحت قدميها الدقيقتين اللتين طالما قبلهما أحمد راضيا سعيدا مغتبطا .. يأخذها معه كلما خرج فيتحدث الجميع عن تلك البنت التي سلبت لُب أبيها وشغفته حبا ..

تمسك بيديه في الطريق وتتأرجح بهما وكأنها تقول للناس .. كلَّ الناس .. هذا هو أبي .. حبيبي وصديقي .. ” من منكم يحبه مثلي أنا ” .. لا يحلو لها النوم إلا على ذراعه .. فاذا غفت وحاول نزعها برفق من تحت رأسها استيقظت ممسكة به فيظل هكذا حتى الصباح ..

post

كانت أمينة تتعجب من هذا الارتباط والتآلف بل والامتزاج بينهما .. فكان الأب ينظر إلى ابنته ويبتسم ويداعبها : أمك تغار منك ، فتبتسم أمينة .. سعيدة ولكن ابتسامتها كان يشوبها شيء من الحزن غير المبرر حينها .. ولكنها حاسة الأم التي لا تخيب .. فمثل هذه النسمات تمر على حياتنا مرورا لتقول : إذا كانت الدنيا تجود بمثل هذه السعادة فما بالكم بنعيم الآخرة ” وما عند الله خير ”

– بابا نقول : بسم الله في بداية الأكل فإذا نسينا ثم تذكرنا فلنقل : بسم الله أوله وآخره .. وماذا أيضا يا سارة ؟ نعم أبي ” يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ” بارك الله فيك يا ابنتي ..
– بابا انتظر .. قل بسم الله توكلت على الله .. دعاء الخروج من المنزل .. سارة هيا ادعي دعاء السفر : ” سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون …. ”
وها هي تختبيء خلف الستارة وهما يدوران باحثين عنها وهي تكتم أنفاسها خشية أن تضحك فينكشف أمرها ..

وها هي تجلس ممسكة بكتاب وقد زوت بين حاجبيها وشدها التفكير فيما تقرأ محاكية الكبار ..

تقفز سريعا حين تسمع المفتاح بالباب وكأنها طائر من طيور الجنة يتحرك على الأرض ..

تتهيأ للصلاة ثم تسجد وتجلس محركة أصبعها والوالدان يرقبان عن بعد بابتسامة الرضا والحنان ..

هكذا كان صوتها .. وكانت روحها المرحة ترفرف في كل ركن وفي كل زاوية من زوايا البيت ومن زوايا النفس أيضا ..
من ينظر إليهما وهما يسيران في الطريق يخالهما طائرين يحلقان في فضاء الله ..
تتوقد ذكاء .. وتتفجر حنانا .. وتفيض رقة .. حفظت جزءا من القرآن وهي في الخامسة من عمرها وآخر وهي في السادسة .. فكانت الهدايا والمكافآت بعد كل سورة .. وكانت أجنحة السعادة ترفرف على الأسرة بما يعجز القلم عن وصفها .

يوم دخلت المدرسة ويا له من يوم !! سلمها الأب إلى مدرستها ونظر إليها وفاضت دموعه ؛ فهذه أول مرة ستغيب عن عينيه ساعات .. وقد حملت حقيبتها الصغيرة وبها قارورة مياه وبعض الشطائر .. مسح على رأسها ثم انصرف .. وعاد إليها بعد اليوم الدراسي ليحملها بين يديه وقد تعلقت برقبته وكلاهما يبكي بدموع الفرح للقاء بعد الغياب ..
هناك من البشر من تقطر له السعادة قطرا .. وهناك من تهجم عليه كالشلال أو كالغيمة المثقلة تفض كل ما لديها في لحظات ثم تنقضي .. وقد كان أحمد من هذا الصنف الثاني ..

في يوم عادت سارة من مدرستها وقد استبد بها صداع شديد .. بابا رأسي .. ودارت الدنيا بأحمد .. وبدا على أمينة نظرات التوجس مما دار بخلدها ولم تفصح عنه .. فكانت تحدث نفسها ( لطالما قلت لنفسي : هذه النسمة الطيبة لن تدوم بيننا طويلا .. رحمتك يا رب )
شهور مع المرض ثم رحلت لتنتظر الأحباب هناك في دار أرحب وأجمل وأهنأ ” في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ” بإذن الله تعالى .. رحم الله سارة .. رحم الله كل الأطفال .. رحم الله موتانا جميعا

زر الذهاب إلى الأعلى