فى ذكرى إغتيال فارس الكلمة…يوسف السباعى

وفاء عرفه – الأسكندرية
كنت آنذاك فى المرحلة الثانوية من رحلتي الدراسية؛ أذكر هذا الحدث المؤلم كأنه اليوم؛ كنت استذكر دروسى و كعادتى بجوارى الراديو يؤنسنى صوته الخافت؛ فى وقت الراحة التى لا تتعدى الدقائق أرفع صوت الراديو و أنصت له قليلاً؛ كنوع من الفصل ما بين المواد الدراسية المختلفة؛ و إذا بخبر عاجل كما يذاع الآن؛ لن أنسى نبرات صوت مذيع الراديو وقتها؛ كان صوته الأجش على قدر حزنه من الخبر الذى ينعيه يتسم أكثر بالغضب الممزوج بالقهر؛ من تفاصيل الخبر قليلة الوضوح؛ لكنها مؤلمة حد ثورة الغضب؛ أعلن بصوته الحزين عن إغتيال فارس الكلمة الأديب يوسف السباعى في قبرص و إنتهى الخبر.
هنا استقمت من على مقعدى و استندت بيدى اليمنى على حافة مكتبى و يدى اليسرى على جبهتى؛ أحقاً ما سمعت قتلوا كاتبى المفضل؛ أجهشت بالبكاء بصوت مسموع من بشاعة الخبر؛ و لأنى من أولئك الذين لا يبكون إلا لحدث جلل؛ لم أشعر إلا و أمى رحمها الله تحتضننى بقوة و تسألنى بصوت حنون قلق لماذا تبكى؟ أخفيت رأسى فى حضن أمى و بكيت أكثر و بصوت متهدج قلت قتلوه يا ماما قتلوه ؛ لم تفهم أمى لكنها بدأت تهدأ من روعى و تقول لى: طيب فهمينى مين ده و إيه اللى حصل؟
بعد دقائق قلت لأمى المجرمين قتلوا يوسف السباعى دون ذنب يا أمى.
فقالت لى كل هذا البكاء عشان يوسف السباعى؟ كانت تعرفه من كتبه التي كنت أقتنيها فى مكتبتى الصغيرة وقتها؛ هدأت من البكاء بسبب رد فعل أمى؛ إبتسمت و قلت لأمى ده الكاتب اللى كتب روايات كتير أصبحت من أعظم أفلام للسينما المصرية زى..
إنى راحلة-السقا مات -العمر لحظة -أرض النفاق – نادية- رد قلبى – بين الأطلال- نحن لا نزرع الشوك ؛ إلى هنا استوقفتنى أمى بقولها لا ده كده يبقى كاتب عظيم كفاية عليه فيلم إنى راحلة؛ و إبتسمت و تركتنى هادئة بلا دموع بل مبتسمة أيضاً.
أكملت تحضير دروسى لليوم التالى؛ ثم توجهت للنوم و ما أن وضعت رأسى على وسادتى و أغمضت عينى و إذا بصورة السباعى تملأ محيط غمضة عينى؛ تواسينى إبتسامته العذبة التى كانت تطل دائماً من صوره؛ كأنه يقول لى لا تحزنى و لا تبكى إنى مفارق بجسدى فقط؛ لكنى موجود بما تركته خلفى من أفكار و إبداع ؛ منذ تلك اللحظة و أنا أؤمن حد اليقين بأن المبدعون لا يموتون هم الغائبون الحاضرون؛ هم غذاء العقل بصماتهم محفورة بين أروقة أفكارنا؛ يعود الفضل لهم فيما أصبحنا عليه من فكر؛ سأظل مدينة لهم بثقافتى و سيظلوا أساتذتى الكبار؛ أحاول أن أخطو على خطاهم و دربهم فيما أكتبه؛ بل و فيما أود أن تكون رسالتى بالكلمة.
الشاهد أن النوم جفانى فى هذه الليلة الحزينة؛ حاولت مراراً لم أفلح حتى سمعت آذان الفجر؛ فنهضت وقتها و فتحت الراديو و إستمعت لصلاة الفجر و صليت فرضى ثم أغدقت عليه بالدعاء و جلست أفكر كثيراً ؛ إلى أن وجدت الطريقة التى تشفى صدرى من هول ما أشعره حيال هذا الحدث المفجع؛ وجدت نفسى على مكتبى الصغير رفيق رحلة دراستى؛ أحضرت ورقة فلوسكاب و قلمى الرصاص و أنا لا أعلم ماذا سأكتب لكنى قررت أن أفضى بكل مشاعرى على الورق؛ و قد حدث كتبت ملئ الورقة و إستعنت بأخرى لأخرها إلا قليلاً.
ذهبت إلى مدرستى في ذات الصباح؛ كنت رئيس إتحاد الطالبات و المسئول الثقافى عن الإذاعة المدرسية؛ كان لابد أن أتواجد لتحضير ما سيذاع فى الإذاعة بمصاحبة أستاذى لتقرير المادة المقدمة يومياً؛ تحدثت إلى أستاذى مدرس اللغة العربية عن رغبتى بإلقاء ما كتبته عن حدث اليوم المؤلم؛ قرأ أستاذى ما كتبته و رحب جداً بذلك و بحكم أنه أستاذى كان يشجعنى لعلمه أننى أجيد كتابة الموضوعات فى مادة التعبير؛ جاء وقت طابور الصباح فى مدرستى {الثانوية للبنات} بدأت الإذاعة المدرسية تعلن عن فقراتها اليومية؛ خلف الإذاعة يقف كل من مديرة المدرسة و الناظر و و الوكلاء.
جاء دورى و أعلن عن إسمى لإلقاء الكلمة؛ بدأ جسدى يرتعد بمعنى الكلمة رغم أنى يومياً أقدم المحتوى اليومى للإذاعة؛ لكن هذا اليوم كان به من الحماسة و الغضب و الحزن على كاتبى المفضل و إغتياله يفوق قدرتى على ثباتى الإنفعالى فى أداء شبه معتاد.
توجهت إلى المايكرفون و مسكت بخطابى و بدأت الإلقاء؛ و عينى على زميلاتى لعلمى أن بعضهن لا يأبهن لحدث مثل هذا؛ الهوايات و الإهتمامات فى هذا العمر تختلف؛ لكل منا عالم يفضله عن الآخر؛ بعد عدد قليل من السطور بدأ صوتى يأخذ منحى من الحماس و إختلط به الحزن و الظلم و الإنفعال و الشعور بالغدر و إزهاق روح.
إنتبهت لى زميلاتى كلهن و ساد فناء المدرسة الصمت دون همسة؛ توحدت و خطبتى العصماء مع حماسى و إعلاء قدر وطنى؛ منارة العلم و الثقافة و قبلة الوطن العربى للأدب و الفنون و العلوم؛ إمتزجت كلماتى عن مناهضة الغدر و إغتيال رمز من رموز الفكر؛ و حبى الشديد لبلدى و لكل من يزرع فى عقولنا؛ مبادئ و أفكار تؤسس جيلاً قوياً مثقفاً؛ إشتعل وجدانى فى ما قبل النهاية و هتفت بقولى بلادى بلادى لك عقلى و وجنانى؛ أنت أنت الحياة و لا حياة إلا بك يا مصر؛ عند الكلمة الأخيرة إغرورقت عيناى بالدموع ثم إنتهيت من الإلقاء؛ فوجئت بزميلاتى و أساتذتى يصفقون بحرارة و لوقت فوق المعتاد ؛ لن أنسى نظراتهن و تعبيرات وجوههن؛ من حزن على إغتيال فارس الكلمة؛ و فخر وحماس للوطن؛ مصر التى أنجبت السباعى و كل رموز الأدب و الفكر؛
فلترقد فى سلام أديبنا الكبير صاحب فكرة رواية عن فلسفة الموت.. السقا مات..

زر الذهاب إلى الأعلى