مواطن و نصف حياة

بقلم إبراهيم ياسين

 

 

في ظهر أحد أيام تموز كان سكان الزقاق المدفون في قلب المدينة يتنفسون أنفاسهم و غباره يدور كنحل في خلية في جَوِّهِ المسجون داخل علبة في خزانة مدفونة تحت أنقاض بناية هدمها سكانها ….

وبائع غزل البنات ينفخ في مزماره و يعلق الأكياس الملونة في طرف عصا على كتفه لعله يستل قطعة نقود معدنية من الجيوب الممزقة أو يغري طفلاً فيبذر ثروته …

post

و فرج في شقته جالس على كرسي من الخيزران ينظر إلى الحصيرة البالية التي تنتحر منها فتلة تلو الأخرى و الماء الذي يغلي في فخاره ..

يضع معصميه على طاولة تلاشى زهو ألوانها ورأسه بين راحتيه…تغوص أصابعه في خصلات شعره المفضضة بغبار الزمن فتصل إلى جذورها الممتدة خمسين خريفاً و تعود لتداعب أطرافها الواقفة على حافة المستقبل ترقب السعادة ….

ظل فرج نهاره على كرسيه حتى سمع الأصوات ليلاً تتعالى في الزقاق فنهض مسرعاً نحو النافذة فرأى البؤساء يلهثون وراء رغيف خبز فرنسي ضل طريقه وسلك منعطفاً انتهى به في الزقاق، لحقوا به قبل خروجه من عنق الزجاجة ولم ينل إلا القليل من فتاته …

وبينما فرج يدور بعينيه في الزقاق كانت النسمات الصيفية المنعشة تتحطم على واجهات البنايات الرخامية العالية المتلاصقة الممتدة أذرعها الطويلة حول عنق الزقاق و تقبض عليه دون رحمة فلا تصل إلى صدور ساكنيه إلا بعض النسمات الرحيمة الهاربة من الحطام لتروي عطش البائسين المنسيين ..

وكان فرج سعيد الحظ ذلك المساء إذ وصلت نسمة إلى صدره و ضخت الحياة في جسده الهزيل فخلع ملابسه وألقى بها من النافذة وهرول عارياً حافياً نحو المجهول .

زر الذهاب إلى الأعلى