تسريـــح العمانيين وأثره على مستقبل التعمين والثقة في القطاع الخاص

د.غادة محمد

. رجب بن علي العويسي:
لمَّا كان التعمين أحد التوجُّهات التي اعتمدتها الحكومة في سبيل خلق فرص أكبر للمواطن وتمكينه من إدارة مشروعاته الاقتصادية، فعلى الرغم من الهواجس التي ارتبط به، والتحديات والصعوبات في إقناع القائمين على الشركات ومؤسسات القطاع الخاص والمستثمرين ورجال الأعمال وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن الإرادة الوطنية الماضية في تطبيقه، والداعمة له بالتشريعات والقوانين والحوافز وغيرها قد شكل فرصة مهمة في تعزيز هذا القطاع وتأصيل ثقافة العمل لدى الشباب العماني للعمل في القطاع الخاص في وقت لمن يكن الاتجاه إلى هذا القطاع بالشكل المرغوب لدى كثير من الشباب العماني، وكان انتظار الوظيفة الحكومية أولوية، وهاجس ما زال يراود الشباب إلى يومنا هذا، والنتائج التي أظهرها استطلاع الرأي الذي نفذه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول توجُّهات الشباب العماني نحو العمل في دوراته المتعاقبة خير دليل يبرز هذا الهاجس، ففي دورته الخامسة لعام 2019 أظهر استطلاع المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول توجُّهات الشباب العماني نحو العمل، أن 87% من الباحثين عن عمل، و76% من طلبة التعليم العالي يفضلون العمل في القطاع الحكومي، كما أن ثلثي الباحثين عن عمل يفضلون العمل بالقطاع الحكومي حتى لو كان الراتب أقل بنسبة 50% عن القطاع الخاص، وأظهر استطلاع المركز لعام 2017، أن طلبة العلوم الطبيعية والطبية والعلوم الاجتماعية والقانونية والدينية والفنون هم الأكثر تفضيلًا للقطاع الحكومي بنسبة تراوحت بين (71.9- 86.0) في العامين 2016- 2015 في حين ظلت العلوم الهندسية هي الأقل حيث بلغت في عام 2016(63%).
وعلى الرغم من التحديات التي واجهت قطاع التعمين منذ تسعينيات القرن الماضي، والجهود التوعوية التي بذلتها الحكومة في سبيل إعادة هندسة القطاع الخاص وتكييفه لمستجدات الواقع الوطني وطموحات الشباب والذي أسفر عن جملة من الحزم التصحيحية والتطويرية تمثلت في بناء منظومة تشريعية وقانونية وضبطية واضحة، وإعادة هيكلة بعض الجوانب لتتوافق مع القطاع الحكومي يظهر ذلك في بعض الامتيازات والحوافز وتقريب الفجوة وسد التباين الحاصل بين القطاعين الحكومي والخاص، إذ أسهمت عملية المراجعة التي اتجهت إليها الحكومة والتي خرجت بقرارات جريئة عززت من الامتيازات المقدمة للشباب في القطاع الخاص سواء ما يتعلق منها بجانب الحوافز، ومقاربة القطاع الخاص بالقطاع الحكومي في ساعات الدوام الرسمي أو الإجازات الأسبوعية، وسهولة انتقال القوى العاملة الوطنية بين مختلف الشركات والمؤسسات بالقطاع الخاص ذات الصبغة المهنية الواحدة، أو بزيادة الأجور والرواتب، كل ذلك وغيره أسهم بشكل جذري في تغيير قناعات الشباب حول القطاع الخاص، مما كان له أكبر الأثر في قبول الشباب العماني للعمل في القطاع الخاص والانخراط فيه، وتفهم المجتمع وأولياء الأمور لذلك، الأمر الذي عزز من كفاءة جهود الحكومة في وضع التعمين كأولوية وطنية تستهدف خلق مزيد من الفرص للشباب العماني في ظل الترهل وحالة التشبع الحاصل في القطاع الحكومي، مما كان له أثره الإيجابي في تبني سياسات أكثر مهنية وإجراءات أكثر ثباتا، أسهمت في تقنين عملية التعمين وفق شروط وأدوات وأطر عمل واضحة تستند إليها المؤسسات في عملية التعمين للكفاءات الوطنية، كما اتخذت خطوات تدريبية وتأهيلية قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى للعمانيين من مخرجات ما قبل الدبلوم العام ومخرجات الدبلوم العام، وكان للحضور القوي للبرامج التدريبية المهنية عبر الأكاديميات المهنية ومعاهد التدريب الإداري والتقني والمهني المنتشرة في مختلف مناطق السلطنة أحد المداخل لتعزيز القوة الوطنية التي التحقت بالقطاع الخاص وأثبتت حضورها على مختلف مراحل العمل، ناهيك عن الجوانب الإعلامية والتسويقية والترويجية التي اتخذتها مؤسسات الدولة في عملية دعم القطاع الخاص لاستيعاب أكبر عدد من الكفاءة الوطنية للالتحاق به.
لقد أحدثت مسألة التسريح شرخا كبيرا في معادلة البناء، وأسدلت الستار على جهود التعمين التي كلفت الدولة الكثير من الموارد والإمكانات، واتخذت خلالها العديد من القرارات والتوجُّهات والإجراءات في سبيل ضمان انخراط الشباب العماني في القطاع الخاص، وكان من نتيجتها أن وصل عدد العمانيين العاملين في القطاع الخاص إلى 13% من جميع المشتغلين في هذا القطاع، وبالرغم من أنها تمثل نسبة ضئيلة مقارنة بأعداد غير العمانيين في هذا القطاع، إلا أنها استطاعت أن تعطي صورة إيجابية لكفاءة الشباب العماني للعمل في هذا القطاع، وعبر عن بعض توقعات الحكومة في استيعاب هذا القطاع واستقطابه للكفاءة العمانية، فإن ما يحصل اليوم من استحسان صورة التسريح للكفاءات الوطنية من القطاع الخاص في ظل تداعيات الإجراءات الاقتصادية المتخذة، وفرض ضريبة القيمة المضافة، ورفع الدعم عن الكهرباء والماء والوقود، وارتفاع أسعارها، وغيرها، فكانت بذلك فرصة اتجه خلالها الشباب العماني إلى هذا القطاع، ليشكل هذا التوجُّه القائم على تسريح الكفاءات العمانية انتكاسة أخرى تضع القطاع الخاص في المحك، قد تنتزع ـ إن استمر في عقلية التسريح التي ينتهجها ـ الثقة الوطنية، وقناعة المواطن فيه، وجدية ما يحمله هذا القطاع من استحقاقات المستقبل لتعزيز التنويع الاقتصادي، ومستوى الاعتراف بالدعم المالي والمادي والمكاني الذي قدمته له الحكومة في العقود المختلفة لتصبح في مهب الريح، وهو الذي تنتظر منه الحكومة أن يسهم بدور في الإنتاج الوطني واستقطاب الكفاءة الوطنية واستيعاب مخرجات التعليم المختلفة.
على أن مما زاد الأمر سوءا أحداث جائحة كورونا (كوفيد19) وما ارتبط بها من تحديات مالية واقتصادية كبيرة أثرت على الموازنات العامة، والملاءة المالية، وقدرة الشركات على التكيف مع الواقع الجديد في ظل عمليات الإغلاق والمنع وتقييد الحركة، ووقف العديد من الأنشطة الاقتصادية، الصناعية والتجارية والخدمات، وخفض أعداد الموظفين فيها، إضافة إلى الانخفاض القياسي لأسعار النفط حتى الربع الأخير من عام 2020، والتي شكلت تحديا كبيرا لقطاع التعمين، في ظل إفلاس بعض الشركات الكبرى في قطاع النفط والتسريح الجماعي للكفاءة الوطنية، والتي أدت إلى زعزعة الثقة في القطاع الخاص، وعدم قدرته على تحقيق الاستدامة التي يسعى المواطن إليها، ويأمل أن تتحقق في ظلها حياة سعيدة، وبيئة عمل قادرة على أن تحقق لها الأمان ولأسرته الاستقرار والنجاح، وهو أمر سوف يلقي بظلاله على مستقبل التوظيف بالقطاع الخاص، كما أن التسريح للكفاءات الوطنية بحجة الركود الاقتصادي وانخفاض المشاريع الحكومية التي يعتمد عليها القطاع الخاص في نشاطه، والمبررات غير المقنعة التي بات يسترسل فيها القطاع الخاص، دون أي جدية في حلحلة هذه المشكلة أو إعطاء تفاصيل أدق حول حجم هذا التحدي، وفي المقابل استمرار الشركات في استيعاب الأيدي الوافدة وتشغيلها، سوف تكون له نتائجه الكارثية على السلم والأمن الاجتماعي، واستدامة الكفاءة الوطنية وابتكاريتها، وموقعها في منظومة العمل، بما يضع هذا القطاع أمام حالة تأزم حقيقية مستمرة مع المواطن، خصوصا مع وجود نظام الأمان الوظيفي الذي اتخذته بعض مؤسسات القطاع الخاص ذريعة لها في مسألة التسريح، وتبرير عملها، أو عبر العقود المؤقتة التي أوجدت ثغرة أخرى عززت من انتزاع ثقة الشباب في القطاع الخاص.
وبالتالي يفرض هذا الواقع على الحكومة جهودا حثيثة وجادة في تأطير هذا القطاع وإعادة رسم ملامحه، وهندسة معالمه من جديد، ووضع التشريعات والقوانين الضابطة التي تبرز قوة القرار الحكومي، وتلزم القطاع الخاص بمسؤولياته الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية والوطنية، وانتصار حق المواطن في مواجهة حالة الإخفاقات الناتجة عن تدني مستوى تجاوب هذ القطاع من الأولويات الوطنية، وإيجاد فرص أكبر لإعادة هيكلة منظومة التعمين بشكل يتناغم مع طبيعة التحوُّلات الحاصلة ورؤية عُمان 2040، وإيجاد مدخلات عمل متجددة تسهم في استقطاب القوى الوطنية والمحافظة عليها، بحيث تجد فيها فرصتها لتحقيق الاستدامة، وإثبات بصمة حضور لها في واقع العمل وميادين العطاء والإنتاج والمنافسة، وبالتالي تبني جملة من السياسات والخطط والبرامج والتشريعات التي تحفظ منظومة التعمين قائمة بأسلوب آخر ومنهجيات أخرى أكثر واقعية وتناغما مع التخصصات، وتقديرا للاحتياج وضبطا للموارد، وفي الوقت نفسه الإبقاء على حماس الشباب العماني في الانخراط في القطاع الخاص على درجة عالية من التأهيل والتمكين والمصداقية والكفاءة، وعبر تمكين الشباب، وتعزيز الاستفادة من الشراكات الاستراتيجية الفاعلة التي أقرها مجلس الوزراء الموقر في أكتوبر من عام 2021 بشأن تدشين البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي والذي جاء في أحد مبادئه “خلق شراكة استراتيجية مع مؤسسات القطاع الخاص”، بما يؤسسه ذلك من رؤية عمل جديدة تعالج هذا الاختزال الحاصل للكفاءة الوطنية نتيجة عملية التسريح لها، وفي الوقت نفسه وضع اليد على الجرح في مواجهة أي اختلالات حاصلة في عمل بعض الشركات نتيجة سوء الإدارة المالية فيها، وتوزيع المهام، وما يتطلبه من مراجعة حزم الامتيازات والحوافز المقدمة للرؤساء التنفيذيين ومديري العموم وغيرهم في المستويات الوظيفية العليا، بالإضافة إلى جهد حكومي في توفير بيئات تشغيلية تركز على الأنشطة اللوجستية والفنية وتوفير الصناعات الخفيفة المرتبطة بالمناطق الصناعية، وتنشيط دور الموانئ البحرية في صحار والدقم وصلالة، بما يسهم في إيجاد فرص متنوعة للشباب العماني، تقلل من الاعتماد على نطاق واحد فقط في عملية تشغيل القوى الوطنية، وتعطي الفرص للشباب في تبني أنشطة اقتصادية منتجة مع ضمان الدعم والمساندة والتوجيه المستمر لهم عبر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
أخيرا، هل ستسهم الجهود الوطنية في قادم الوقت في حسم الموقف لصالحها، ومنع الشركات من تنفيذ أجندتها الشخصية في تسريح العمانيين؟ وهل سنشهد إصدار تشريعات رقابية وضبطية أكثر قوة تنفيذية في التعاطي مع التجاوزات الحاصلة في هذا المجال، وتعميق التفاؤلية في قدرة القطاع الخاص على كسب الرهان لصالح بناء الثقة في الشباب العماني ومبادرات وابتكاراته، وقبل ذلك كله كيف تستطيع الحكومة من جديد أن تقنع الشباب العماني بالتوجُّه نحو القطاع الخاص في ظل تراكمات التسريح الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأسرية؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى