صاحب الجميلات النائمات الذى مزقه رحيل أحبائه

ياسونارى كواباتا

عبير ضاهر

فقد بعد فقد و رحيل يتبعه آخر لم يجعله متماسكاً حتى حين مثل قوة العاطفة والشغف بالجمال والتى إمتازت بهم طبيعته إنه في الحب قد إنتخب الأفلاطونى منه ومجّد الحب العذرى و تلاقى الأرواح وإجتذابها ، عشق اللغة والمرأة والشباب والطبيعة وحتى تراث أمته العريق من تاريخ وتقاليد راسخة وفلسفة وفكر وتطّلع لحداثة معتدلة،إستطاع الصمود بإعجوبة لوقت أمام منجل الموت الحاصد لأرواح الأحبة والمقربين فقد رحل والديه قبل أن يتم عامه الرابع وكان والده يعمل طبيباً و لديه إهتماماً خاصاً بالفنون والآداب ،بعد رحيلهما احتضنه جديه في حين قامت عمته بإصطحاب أخته الوحيدة لتقطن لديها لكى ترعاها ولكنه لم يرها سوى مرة واحدة لتموت بعدها بوقت أما جدته فقد رحلت هى الأخرى وهو بعمر السابعة وبقى مع جده الضرير يتحمل مسؤليته وهو مازال صغيرا بعد حتى بلغ الخامسة عشرة ليرحل الجد هو الأخر ليجد نفسه وحيداً تماماً وقد خلف كل هذا الفقدان وخسران الأهل ركاماً من الحزن والشعور بالأسى وبالألم بداخله لم يتخفف منه ويتزحزح قليلا سوى بفضل الأدب الذى راح كواباتا يقتلع من أحزانه ويطرحها على صفحات أعماله ليهدأ فيقوى ويتقدم بمشوار الحياة يكتب ويبدع ويعطى بسخاء كبير ومميز
الكاتب اليابانى الحائز على نوبل للآداب كأول يابانى يحصل عليها في الأدب وذلك من عام 1968
ولد بحى أوساكا أحد أحياء مدينة طوكيو ولد في يونيو لعام 1899
ولأنه كان يعيش بمفرده بعد فقدان لكل أسرته انتقل إلى مدرسة داخلية في عام 1916 للدراسة وبعد حصوله على الثانوية إلتحق بكلية الدراسات الإنسانية قسم اللغة الإنجليزية بجامعة طوكيو الإمبروطورية وفور تخرجه عمل مراسلا لصحيفة (ماينيتشي شيمبون) وكانت ك أول قصة منشورة له بمجلة طوكيو الأدبية وأسمها (مشهد من جلسة أرواح)
أما أولى رواياته والتى كانت أشهرهم فهى بعنوان ( بلد الثلج)
والتى قام بنشرها مسلسلة على مدار عامين من 1935 وحتى 1937
فعمل على توفر عنصر التشويق لإجتذاب القراء خاصة أن بعضاً مما نُشر له من أعمال بالصحف كان بشكل يومي ، وقد ترجمت سبعة من أعماله إلى اللغة العربية مثل (حزن وجمال ، الجميلات النائمات ، البحيرة ، ضجيج الجبل ، سرب الطيور البيضاء ، بلاد الثلوج ، راقصة إيزو)
هذا ومن أعماله الروائية أيضا : صوت الجبل ، راقصة أيزو ، المعلم جو أو معلم الشطرنج اليابانى ، ألف من طائر الكركى ، فرقة أساكوسا القرمزية ، العاصمة القديمة غير مجموعة شعرية واحدة بعنوان (جوجاكا – قصائد وجدانية) وهى أشعار تفيض بعواطف جياشة ومشاعر حارة ودافئة تجنح إلى الحنين والشجن المتغلغل بنفس كواباتا على الأغلب صاغها بلغة شعرية كثيفة عذبة وراقية
وقد كتب أكثر من مائة وأربعون قصة قصيرة كان يطلق عليها قصص كف اليد نظراً لقصرها إذ ترواحت بين الصفحة الواحدة والسبع صفحات وربما هذا ما دفع ببعض النقاد إلى إعتبار ياسونارى كواباتا كاتباً للقصة حتى في رواياته ، نال جائزة نوبل لأسلوبه النثرى الكثيف ولغته الشعرية وإختياره لعنصر التشويق والغموض المحبب في كتاباته التى تحتضن عمق المشاعر وقوة العاطفة وترتكز بعضها على الرموز ،إمتد عمره الإبداعى لقرابة الخمسون عام حافلة بالعطاء والتوهج والزخم الإبداعى
ومنذ بداياته على الرغم من محبته وتقديره الكبيرين للتراث اليابانى والشعر الصينى ورمزية وفلسفة اللغة الأم إلا أنه تطلع إلى عمل تياراً جديداً في الكتابة الأدبية
فاشترك مع زملاء له في تأسيس مجلة أدبية تتبى تيار أدبى جديد
فكون حركة أدبية متمردة على المدارس المتبعة والقائمة وهى المسماة بالمدرسة الطبيعية وذلك عبر مجلة (تيارات الفكر الجديدة ) والتى أصدرها مع عدد زملائه من رفاقه المبدعين بالجامعة وكان هو واحداً من المحررين لمجلة عالم الأدب .
وقد تأثرت كتاباته بتجاربه الحياتية التى حرص ربما على تناول بعضها في أعماله الأدبية مثل روايته (جماعة أساكوسا القرمزية ) والتى ذهب عدد من النقاد وبعض معارفه إلى وصفها بأنها كانت تجربة ذاتية له فهو في بداياته حيث كان الوفاء بدفع إيجار البيت الذى يسكن به أمرا ليس بالهين عليه فكانت يتجول بشوارع طوكيو الصاخبة وخاصة بحى أساكوسا يمضى وقته بين المسارح والكازينوهات حيث كتب تلك الرواية والتى تحكى عن رجل يسير هائماً على وجهه بهذا الحى لايتحدث مع أحد من ساكينه وكل ما يقوم به أنه يراقب إمراة تنتمى لفرقة موسيقية متجولة تعمل بكازينو يدعى كازينو الحمامات والذى ذاع صيته بعد ظهور الرواية وأقبل علي إرتياده الناس بكثافة مما عمل على مضاعفة أرباحه وشهرته وقد لاقت الرواية شهرة كبيرة وإعجاب واسع من قبل القراء والنقاد
كما كتب عمل ثانٍ اُعتبر هو الأخر تجربة شخصية بكواباتا وهو رواية (راقصة ايزو) والتى يستعرض من خلال أحداثها حب أقرب لإفتتان شاباً بفتاة جميلة تنتمى لأسرة فنية تتألف من أب وأم ولما يتحقق من ملامحها وقوامها على غير قصد منه بينما كانت تسبح مع أمها ليجدها تبدو كطفلة وديعة بقوام رقيق كالندى فتأخذ عاطفته تجاهها منحاً أخر ليصير أقرب لحباً أفلاطونياً تغلب عليه مسحة صوفية وعشقاً للروح والتى قيل أنها قصة حب غير مكتمل له أو سلك في نفسه بعداً مغاير لما حمله في بدايته كما ظهر بأحداث تلك الرواية والتى يذكر أنه قد صاغها ثانية بعد صدورها الأول بأربع سنوات كاملة .
أما عمله الأشهر والذى حاز على إعجاب غالبية من قرأها فهى روايته (الجميلات النائمات ) أو الجميلات المنومات يستعرض فيها آمانى النفس الهاربة مع تقدم العمر للرجال العجزة عن ممارسة الجنس والذين يقصدون بيتاً يوفر لهم شيىء من المتعة بشروط معينة وضوابط ملزمة في أجواء وظروف غير مألوفة ولاإعتيادية كما هو شائع عن طبيعة مثل تلك الأماكن ففي بيت الجميلات النائمات يتم إعطاء مخدر للفتيات اليافعات اللائى يتم إختيارهم وفق مقايس بعينها ويخضعن لشروط أيضا على أن يخبر و يجبر مرتادى البيت على ألا يلمسن الفتيات المنّومات بأحضانهن في فراش واحد لليلة بطولها تنتهى مع ظهور أول علامة لصباح اليوم الجديد ليعيش الرجل طوال تلك الليلة وقته يتمتع بالتحديق في جسد عارى تماماً تغط صاحبته في نوم عميق يتلألأ وسط ضوء الغرفة الخافت وحرارة المدفأة نابضاً بالشباب والجمال والإثارة وما على الرجل المتمدد بجوارها والعاجز بحكم زحف الأعوام وتمكن الشيخوخة منه بأن يتمتع بإثراء خياله وملاء عينيه .
من المهام والمراكز التى أسندت إليه منصب رئيس لجنة تحكيم جائزة أدبية رفيعة ( اكتاجاوا) والتى تمنح للأدباء الشبان وظل بمركزه هذا لسنوات وأيضا توليه رئيساً لرابطة الكتّاب والشعراء والمحررين الدولية ، كانت له إسهامات كبيرة بتعريف العالم أجمع بفظائع القنبلة الذرية وما لحق ببلاده جراء إلقاء قنبلتي هيروشيما ونجازاكى من دمار وخراب وأذى بالغ بالأرض والإنسان وكل مظاهر الحياة
وقد نال كواباتا جوائز رفيعة وشهرة واسعة داخل وخارج بلاده إحدى الجوائز وفرت له فرصة شراء بيتاً بموقع متميز أتخذه للأقامة به صيفاً يقع بإحدى المناطق الجبلية غير جائزة نوبل التى بها ذاعت شهرته عالمياً فعرّفت العالم بأدبه ودفعت القراء للإقبال على أعماله سواء بلغته أو المترجمة للغات أخرى والتى كانت من بينها لغتنا العربية لتقدم لنا وتعرفنا على فن وأدب الروائى اليابانى الكبير ياسونارى كواباتا .
لم يترك الحزن قلبه سليماً ليصمد أكثر على قيد الحياة فاختار أن ينهيها بنفسه منتحراً بكل أسف ورحل مختنقاً بالغاز في ابريل لعام 1972 ومما قيل في سبب إتخاذه لقرار الإنتحار هو حالة حزن شديدة على موت تلميذاً له وصديق مقرب إليه وهو الروائى اليابانى يوكيو ميشيما الذى قتل بنفسه على الطريقة اليابانية الشهيرة بضربة سيف بنوفمبر سنة 1970 بينما ذهب أخرون إلى أنه كان مريضاً وصحته في تراجع مستمر وغيرهم أرجع السبب إلى قصة حب ما متعسرة ومرفوضة !. أما وأن واصل كواباتا المضى في دروب الحياة بعد كل ما ألم به من فقد لأحبائه واحداً تلو الأخر فنحيى صموده في الإستمرار حتى قدم لنا هذا الثراء الأدبى المتميز من أعمال متنوعة بين القصة القصيرة والرواية الطويلة التى سيظل عشاق الأدب العالمى يفتشون عنها لإلتهامها والتعرف على حياة صاحبها المثيرة للإعجاب والشفقة معاً.
ومن أقوال كواباتا و التى تتجلى هنا بهذا السياق :
كنت أشعر وكأن رأسى تحول إلى ماء عذب نقى ، وكان يهمي برقة قطرة قطرة وبعد حين لن يبقى أى شيء.

 

زر الذهاب إلى الأعلى